التكسير المجتمعي ونتائجه الكارثية

23-07-2018
حسام ميرو

كان مأمولاً من الدولة الوطنية، ونخبها، وأحزابها، وأيديولوجياتها، أن تسهم في نقل المجتمعات العربية من حالة الفوات التاريخي إلى مرحلة حداثية، كي تتمكن المجتمعات من تجاوز ذاتها، وحشد طاقاتها في بناء صيرورة جديدة كليّاً لوجودها، لكن الدولة الوطنية العربية، وعلى مدار العقود السابقة، ابتداءً من لحظة تأسيسها، بعد الاستقلال عن الانتدابات والاحتلالات الأجنبية، فشلت فشلاً كبيراً في القيام بمهمتها التاريخية في تحديث المجتمع، بل إن النخب الحاكمة للدول الوطنية العربية، راحت مع الوقت، تنفصل عن مجتمعاتها، وفقاً لمصالحها الخاصة، وهي في التوصيف الوطني، مصالح ضيقة، ومضادة للدولة الوطنية ذاتها.
العلاقة بين الاجتماعي والاقتصادي، تلك العلاقة الجدلية في التحديث، لم تكن متجذرة في وعي النخب الحاكمة العربية، وعلى الرغم من اختلاف الاقتصادات العربية، إلا أنها في المجمل بقيت اقتصادات لا تنتمي إلى عالم الاقتصاد الحديث، أي اقتصاد التكنولوجيا.
في ظل هذا السياق الاقتصادي، بقيت معظم المجتمعات العربية تعتمد على طرق إنتاج لا تحتاج إلى تجاوز أوضاعها القديمة، أو تشكيل أنماط جديدة وحديثة من العلاقات الاجتماعية، بل إن بعض الدول العربية، والتي تحولت إلى دول المحسوبية والفساد وتسلّط الأجهزة التنفيذية، أسهمت في تكريس علاقات اجتماعية تقوم على الولاء والانتهازية الشخصية المحدودة، بعيداً عن أي اعتبار للمصلحة العامة، فأصبح مصطلح المصلحة العامة مغيباً بشكل كلي، ومجرد لازمة في المناسبات الوطنية، فاقداً لأي معنى حقيقي.
وعلى الرغم من التحولات الكبيرة التي عرفها العالم في العقود الماضية، خصوصاً في المجالات السياسية والنقابية والاتحادات المهنية، وغيرها من أشكال تنظيم المجتمعات الحديثة، إلا أن الدولة الوطنية العربية، ونخبها الحاكمة، لم تسعَ إلى الاستفادة من تلك الأشكال الحديثة للتنظيم المجتمعي.
ستبدو لوحة المجتمعات العربية لاحقاً، في لحظة المواجهة بين النخب الحاكمة والشعوب، في سياق ما يسمى» الربيع العربي»، ، ستبدو تلك اللوحة فاقدة لأي معنى حديث، وهو أمر طبيعي في ظل تغييب مقصود لدور المجتمعات، ومنعها من تشكيل أطرها التنظيمية الحديثة، فقد غرقت موجة التغيير في العودة إلى أشكال اجتماعية قديمة، وإلى انتماءات، لا تمت بصلة للدولة الوطنية، في أوضح تعبير عن حالة التكسير المجتمعي، حيث كان من السهل أن يعود المواطنون إلى انتماءات مذهبية وإثنية ومناطقية، ما يكشف عن هشاشة فكرة الوطن والمواطن والمصلحة العليا، وغيرها من الأفكار المؤسسة للدولة الحديثة، أي الدولة الوطنية.
النتائج الكارثية التي نحصدها اليوم هي ثمرة لفشل هائل في بناء الدولة الوطنية ومجتمعها المطابق لها، فالدولة الوطنية ليست مجرد دستور وعلم وجيش ومؤسسات دولة تقودها طبقة بيروقراطية، وإنما هي دولة المواطنين، حيث يعلو مفهوم المواطنة على أي مفهوم آخر للتعبير عن الانتماء، وتفرض المواطنة بناء تعبيرات واقعية مطابقة لها، حيث تكون مهمة التنظيمات السياسية والنقابية والاجتماعية الدفاع عن حقوق المواطنين، والارتقاء بأوضاعهم المعيشية والإنسانية وضمان حرياتهم وحقوقهم، من مثل حق العمل، وحق التعبير، وحق الحصول على خدمات جيدة في مناحي الحياة كافة.
لقد وضعت معظم السلطات العربية نفسها في حالة تناقض مع المجتمع، وفي سياق الدفاع عن ديمومة مصالحها وهيمنتها، لم تتوانَ عن تكسير المجتمع، بل لعبت أيضاً على هوياته الفرعية، واستثمرتها، وفي لحظات معينة، خلقت أوضاعاً شاذة، كان لها دور في تأجيج الصراع بين الفئات الاجتماعية، وهو ما نجده واضحاً في غير مثال عربي، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.
لم يعد ممكناً الفصل، لا نظرياً، ولا عملياً، بين الدولة الوطنية ودولة المواطنة المتساوية، من أجل بناء مستقبل، يتجاوز النتائج الكارثية الراهنة، وهو ما يعني فعلياً إعادة النظر في مفاهيم وأوضاع كثيرة قائمة، فالتاريخ المعاصر يضعنا أمام خيارين اثنين، إما التقدم نحو دولة المواطنة، وإما السماح بحالة انفلات عنفي، في لحظات الأزمات الوطنية الكبرى.

husammiro@gmail.com