أوروبا الضعيفة

23-07-2018
عاصم عبد الخالق

ثورة الغضب التي فجرها في واشنطن أداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال قمته مع نظيرة الروسي فلاديمير بوتين، طغت على ضجة أخرى لا تقل شأناً ولا أهمية أثارتها تصريحات ترامب حول الدول الأوروبية وقادتها خلال مشاركته في مؤتمر الناتو وزيارته إلى بريطانيا بعد القمة مباشرة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يهاجم فيها ترامب حلفاءه الأوروبيين، ولا هي المرة الأولى التي يتخذ فيها مواقف غير ودية تجاههم، سواء عبر تصريحات أو قرارات أو مطالب. سبق أن هاجم ألمانيا بضراوة وهدد بحظر دخول وارداتها من السيارات لأسواق بلاده. وقبل أسابيع هاجم المستشارة الألمانية وقال إن شعبها يتمرد على زعامة الائتلاف الذي تقوده لاسيما سياسته حول الهجرة، في دعم واضح للمعارضة اليمينية.
وفي لندن انتقد السياسة الناعمة التي تتبعها رئيسة الوزراء تيريزا ماي للخروج من الاتحاد الأوروبي، وامتدح وزير خارجيتها المستقيل والمنشق عنها. ولم يتردد ترامب في دعوة نظيره الفرنسي للابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، وإبرام اتفاقيات تجارية ثنائية مع واشنطن مباشرة. قبل ذلك كان قد صدم الحلفاء الأوروبيين في قمة مجموعة السبع بكندا عندما انسحب من بيانها الختامي، ثم اقتراح إعادة ضم روسيا إليها، ورفض رفضاً قاطعاً التراجع عن فرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الألومنيوم والصلب من الاتحاد الأوروبي وكندا.
خلاصة ما تشي به مواقف وتصريحات ترامب هو أنه يخط سياسة خارجية جديدة تجاه أوروبا بعد نحو 70 عاماً من التحالف والانسجام معها باعتبارها الشريك الاقتصادي الأهم، والحليف العسكري والسياسي الأوثق لتنفيذ السياسة الأمريكية في العالم.
الآن يعيد ترامب بوضوح وعلناً صياغة هذه المعادلة التي حكمت العلاقة بين الحليفين على جانبي الأطلسي. ستبقى أوروبا شريكاً وحليفاً بالطبع، ولكنها ستصبح أيضاً ساحة تتصارع فيها الولايات المتحدة مع غريميها الأقوى: روسيا والصين لاقتسام النفوذ والمصالح. أوروبا العجوز باتت أوروبا الضعيفة التي تفقد نفوذها ليس على المسرح العالمي فحسب، ولكن في داخلها أيضا. وهذا ما فهمته أمريكا حتى قبل مجيء ترامب، ولذلك فإن رهان القادة الأوروبيين على تغيير الاتجاه الأمريكي الحالي بعد انتهاء رئاسة ترامب يبدو رهاناً خاسراً بكل تأكيد.
ليس فيما نقول أي مفاجآت ولا مبالغات وحقيقية الضعف الأوروبي، والتنمر الأمريكي عليها لاقتناص الفرص تجسده تصريحات المسؤولين الأمريكيين. وعلى سبيل المثال ألقى «ويس ميتشيل» مسؤول ملف أوروبا في الخارجية الأمريكية كلمة أمام مؤسسة هيرتيدج البحثية بواشنطن الشهر الماضي قال فيها بالنص «إن أوروبا أصبحت مكاناً للمنافسة الجيوسياسية، ويجب أن تأخذ أمريكا هذا في الاعتبار».
يفسر هذا التوجه لماذا لا تبدي الولايات المتحدة أي حرص على تماسك الاتحاد الأوروبي، بل على العكس تسعى إلى تفكيكه وإضعافه، وتحاول إغراء بلدانه بإبرام اتفاقيات تجارية ثنائية معها وليس في إطار جماعي ككتلة موحدة. ويمثل هذا الاتجاه الأمريكي تحولاً مهماً ليس فقط لكونه يشير إلى اتساع الهوة بين الجانبين، ولكن أيضاً لأنه يعكس واقعاً جديداً هو أن أوروبا أصبحت ضعيفة ومنقسمة على نفسها ولا تقوى على مقاومة الضغوط الأمريكية.
النتيجة المترتبة على هذا الضعف رصدتها مجلة «فورين افيريز» الأمريكية المرموقة في تقرير نشرته الأسبوع الماضي بعنوان أوروبا في عصر التنافس بين القوى الكبرى. صفعت المجلة الأوروبيين بحقيقية مؤلمة أسفر عنها ضعفهم هي أن قارتهم العجوز أصبحت رقعة شطرنج تتنافس فوق ساحتها القوى الكبرى. مثلها في ذلك مثل الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية. النصيحة التي تسديها إلى قادة القارة البيضاء هي أن تتحمل بلادهم مسؤولية أكبر في مجال الدفاع إذا أرادوا أن يستعيدوا دورهم كلاعب على الساحة العالمية.
وعلى أوروبا قبل ذلك أن تبلور رؤية جديدة لدورها في العالم، وأن تدرك أن أمريكا في حاجة إليها كما هي في حاجة إلى أمريكا. أخيراً إذا أراد الأوروبيون أن تكون لهم كلمة مسموعة في واشنطن فليس عليهم سوى معالجة مشاكلهم وترميم صفوفهم أولاً.

assemka15@gmail.com