الذوق العام من خزانة أبي

22-07-2018

قال لي أبي: كنا نعتبر من يلبس ثيابا خفيفة أيام الشتاء دون أن يكون له «كنزة» يحتمي بها من البرد مرتكبا لفعل يسمه بقلة الأدب وعدم مراعاة الأجواء العامة ومشاعر المجتمع، ففي هذا الفعل سوء تقدير للأمور وجرأة على المناخ وإظهار لقوة ووداعة في وقت غير مناسب وجرح لمشاعر من لا يملك سوى ثوب شتاء.

ومن الأمور التي ينتقدها الناس في وقت الصيف لبس الشماغ الأحمر الذي يعني بأن لابسه يملك أكثر من غطاء واحد للرأس ولا يهمه ادخار لبس الشتاء لموسمه ولا لبس الصيف لوقته، مما يجعله متميزا عن فقر وعوز شاع في تلك الأيام، والناس حينها حريصة على أن تكون سواء في السراء والضراء.

أما لبس «التاسومة» في الشارع ـ وهي نعل البيت عادة ـ فهو عمل ينهرنا عليه ونحن صغار كل من رآنا من كبار السن في الحي ويجبروننا على العودة للمنزل لانتعال «التليك» وهو نعل الخروج الذي لم يكن أجمل ولا أرقى من «التاسومة»، ولكن فقراء ذلك الزمن يصنفون لكل مقام لباسه ونعله.

كان من أكثر الأمور عيبا أن يطبخ منزل مائدة طعام قلت أو كثرت ولا يهدي منها لجاره، ومن أكثر المعايب أيضا إعادة الآنية فارغة لأهلها، حتى إن والدتي رحمها الله تعالى كانت تقول لي عندما أهم بإرجاع قدر لأصحابه وليس في دارنا شيء نعطيه أو طعام نهديه: ضع في القدر سكرا فهو علامة الحب والتقدير والامتنان.

ولو تجرأ أحدنا ونحن أطفال ونادى رجلا من المارة لا يعرف اسمه أو يعرفه دون أن يضيف كلمة «عمي» فقد ارتكب من الكبائر ما لا يغفرها سوى تنظيف الخيزران لغبار ظهره وأوساخ لسانه، وكان المنتقد لهذه الحالة من أب أو أم يقول لك في سلسلة عتابه المصاحب للضرب «ما تستحي تجرو من رجولو؟» ومعنى ذلك أنك في مناداتك دون استخدام اللقب الاحترامي كأنك تسحبه من رجليه دون تقدير لكبر سنه.

ومن نفل الآداب في البيوت أن الفتيات اللاتي لم يبلغن العشرين بعد لا يقابلن صديقات أمهاتهن إلا بأثواب ذات أكمام طويلة وملابس طويلة ولا يقابلن مثيلات جداتهن في السن إلا بغطاء للرأس يكون خفيفا ولونه أبيض ليس للستر، وإنما هو تعبير عن احترام الكبيرات يناسب ذلك الوقت، ولم تكن الأنثى في معزل عن إخوتها الذكور وأبيها وعمها وخالها، لكنها كانت تلبس ما يليق بتلك الحالة من قرابة ورحم.

لم يكن الجيران يسهرون ليلهم وجيرانهم نائمون، ولو أرادوا ذلك أطفؤوا المصابيح وأخفضوا الأصوات، لأن إشعال الأنوار والسرج حينها وسهر الجار دليل على حالة طوارئ يمرون بها من مرض أحدهم أو مشكلة لديهم تحتم على الجار الذي يشاهد ذلك المبادرة لعرض المساعدة وتفقد الحال، ولو اكتشف أن ليس في الأمر شيء لكان بلاغا كاذبا تحاسب عليه الأعراف بوصف صاحبه بعوج السيرة والسلوك.

ومجتمع الصغار كان يعيش نعيما كبيرا في وسط هذه الآداب التي كانت تفرض على من أراد إهداء هدية لابنه أو ابنته أن يشرك فيها ابنة جاره أو ابنه الذي يساويه في السن ولو بقطع من الحلوى أو بقايا من تمر مجلوب من المزرعة، وعرض الخدمات والمساعدة هو القاسم المشترك بين الصغير والكبير والمرأة والرجل، فعيب على من أقام وليمة ولم يستعن بغرفة من غرف جاره وبعض قدور من مطبخ جارته ومقاض من السوق يأتي بها ابن جاره.

فاعلم يا بني أن التفاف المجتمع حول بعضه البعض يفرز طبيعة بعض الآداب التي تتفق مع متطلباته والسائد والعام فيه فقيرا كان المجتمع أو ميسورا، واعلم أن اختلاط الجيران والأصدقاء والزملاء وعائلاتهم وأبنائهم وبناتهم يفرض على الجميع طريقة فيها الكثير من الأدب تشيع بينهم ذوقا عاما لتزيد الألفة والمحبة وتذكي روح التعاون.

@albabamohamad