خواطر شاردة!!

24-06-2018

هناك فقط آحاد من البشر تقوى على اختراق تلك الدائرة المحكمة لتعيد بناء تصوراتها لذاتها وما حولها في بحث منهك وطويل.. قد تُحقق فيه نجاحاً أو ترتد مرتبكة في منتصف الطريق لتحمي نفسها بما بقي لها من تصورات الجماعة وعلاقاتها ومنظورها للحياة والأحياء..

1 - قابلية الفرد للتأثر بالأفكار الجديدة على وعيه ليست من السهولة بمكان، وغالباً لا تتأتى إلا للآحاد من البشر، الانسان ابن بيئته، والمفاهيم التي تحتل عقله وتتحكم بسلوكه وتحدد نظرته لذاته وللآخر، وللقضايا من حوله، ليست إلا ثمرة مهده الأول حيث رضع تصوراته الأولى مع حليب أمه. هناك فقط آحاد من البشر تقوى على اختراق تلك الدائرة المحكمة لتعيد بناء تصوراتها لذاتها وما حولها في بحث منهك وطويل.. قد تحقق فيه نجاحاً أو ترتد مرتبكة في منتصف الطريق لتحمي نفسها بما بقي لها من تصورات الجماعة وعلاقاتها ومنظورها للحياة والأحياء. هناك ثمن يدفعه الخارجون من شرنقة الجمود والقوالب الجاهزة التي تبين لهم خللها وكوارثها وعجزها.. إلا أن من ملأ عليهم وعيهم الجديد، منظورهم المتجدد للحياة والأحياء، ومن جعلوا سؤال الحياة برمته بين عيونهم، غالباً ما يدفعون في البدء ثمن التحول في رؤيتهم وتصوراتهم وسلوكهم.. خاصة إذا كانت لا تتواءم مع مفاهيم العقل الجمعي السائد.

2 - ليست كل ثقافة الناس تتشكل من دواعي الحاجة. ثمة ممارسات لا تخرج عن دائرة التقليد والمحاكاة. من النادر أن تجد من يسأل نفسه ماذا يريد؟ لأنه مشغول بما يريده الآخرون، وما يشير به الآخرون، وما يفضله الآخرون. وبالتالي هو لا يريد أن يكون أقل من الآخرين. أنماط التفكير نادراً ما تتجدد. إنها فقط تصنع نسخاً متشابهة. انظروا كيف يبني الكثيرون بيوتهم.. من يملك منهم الإمكانات لا يتردد عن بناء قصر صغير بكل ما يحفل به من بهرجة وغرف وأجنحة وحدائق في منطقة من أشد مناطق العالم حرارة وجفافاً.. وكل هذا لأفراد الأسرة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. والغريب أن كثير منهم يضعون مكتبة عامرة في صدر الفيلا الفخمة أو القصر المشيد، حتى لو كان الواحد منهم لم يقرأ كتاباً في حياته.. أما سفر الصيف فتحكمه نظرة الآخرين ووجهاتهم وأماكن إقامتهم.. وخياراتهم. أما من يريد شراء سيارة جديدة فاختياراته مرتبط بنظرة الآخرين ورغباتهم لا رغبته ولا احتياجه.. الكارثة عندما تتراجع الإمكانات وتتضاءل المداخيل وتجف الأموال.. عندها سترى كوارثاً كثيرة تطل برأسها من أسوار قصر مهجور.

3 - سألني شاب يافع: ما أقصر طريق للثراء؟ توقفت عند هذا السؤال الذي أعتقد جازماً أن كثير من الشباب يراوده ذات السؤال. قلت له: لست من أثرياء المال حتى أرشدك لأقصر الطرق، لكن كن على ثقة أن أقصر الطرق للثراء قد تودي بك إلى مصير مؤلم. الثراء قد يناله الذكي والغبي والمتعلم والأقل تعليماً، الثراء ليس وصفة جاهزة لتغامر بما تملك حتى لو كان قليلاً.. الثراء قد يناله الفاجر والتقي.. الأمين واللص.. الحكيم والوغد.. لكن الذي لا يناله سوى الأبرار هو المدخل الحلال والأمين لكسب المال. الأمر الآخر، لماذا تريد أن تكون ثرياً؟ ألا يكفي أن تعيش حياة كريمة.. حياة الكفاية والكرامة.. لا حياة البذخ والتبذير والهدر.. ألا يكفيك أن تسعد ببيت يسعك، وولد معافى حولك، وزوجة ترعاها وترعاك.. ألم تر بعض الأثرياء الكبار ينتهون إلى حياة بؤس وشقاء.. للثراء الفاحش ضريبة فهل تقوى على مواجهتها؟ أن تكون ثرياً خير لك بالتأكيد من حياة عوز وفاقة.. إلا أن الحياة ليست مالاً فقط، قد تجده وتفقد ذاتك، وقد تجده وتظل تلهث خلفه، حتى تسقط، وقد تجده ولا تجد المعنى الذي شقيت من أجله. لا أعرف حقاً وصفة للثراء.. لكن قد أعرف وصفة للحياة!.

4 - تأتي مناسبة العيد ويأتي معها سيل من التهاني في وسائل التواصل العديدة والجديدة.. معظمها رسائل وبطاقات صارت تتزين بأسماء مرسليها.. تعرف منهم الكثير وقد تجهل آخرين.. بعضهم انقطع التواصل منذ سنين، ولكن ربما بقي الاسم في ذاكرة جهاز المرسل، فهو يرسل التهاني دفعة واحدة لكل المسجلين لديه.. توقفت عن الرد على ذلك النوع من التهاني.. أرد فقط على رسالة مكتوبة وموجهة لي شخصياً.. هذا التعليب الجاهز للتهاني لا يحمل مشاعر ولا حضور ذاكرة ولا لفتة تستحق التوقف. كنا في الماضي القريب نتصل بمن نريد وكان هذا إشعاراً جميلاً لمشاعر وحقوق وواجبات تجاه الآخر.. أما اليوم فانحسرت الاتصالات لتصبح المشاعر سلعة مغلفة ببطاقة إلكترونية جاهزة.. يصلك منها العشرات بذات المواصفات.. دون أن يتساءل المرسل هل هذا أمر مناسب؟.. وهل سيكون لتلك الرسائل المعلبة والمتشابهة ولكل من تحتفظ له برقم.. أثر أو قيمة أو معنى في نفس المتلقي..

أيها العابرون على صفحة جهازي الصامت دوماً.. أرجوكم لا تغرقوه برسائلكم المتشابهة.. الحاضرون في قلبي وعقلي سأتواصل معهم بطريقتي، أما العابرون على أجهزة التواصل ببطاقات المعايدة الجاهزة فليرحموني من سيل بطاقاتهم.. رحمهم الله.