العولمة وجدران الفصل العنصري

25-06-2018
حسام ميرو

كانت موجة العولمة في بداية تسعينات القرن الماضي قد أطلقت وعوداً كبرى في ما يتعلق بالحريات، وأعادت تلك الوعود إلى الواجهة قيم المساواة، وأحيت الأمل في تجاوز التركة الثقيلة للحرب الباردة التي استمرت نحو نصف قرن، فقد قسّمت الحرب الباردة العالم الشرق والغرب إلى كتلتين متنافرتين في القيم، وأنماط الإنتاج، والإدارة، بل وأيضاً في أنماط الحياة الاجتماعية، وطرق الاستهلاك، والثقافة، وساد صراع أيديولوجي هدف إلى استقطاب بلدان آسيا وإفريقيا، لتكون جزءاً من صراع الدولتين العظميين آنذاك، أمريكا والاتحاد السوفييتي، إضافة إلى الانقلابات العسكرية في أكثر من بلد، في الوقت الذي كان فيه انتقال المعرفة بين المجتمعات محكوماً بضعف وسائل التواصل، وتأخرها، قياساً إلى ما هو موجود اليوم.
وتزامنت موجة العولمة الثالثة مع زلزال دولي كبير، هو سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار الكتلة الشرقية، ومع ثورتين هائلتين في التقانة والاتصال، وهو ما أعطى المفكرين الليبراليين مبرراً للذهاب بعيداً في تصوراتهم حول التاريخ والسياسة، وقد يكون فرانسيس فوكاياما، المفكر الأمريكي من أصل ياباني، هو أبرز تلك الأصوات، في أطروحته الشهيرة حول «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، حيث اعتبر فوكوياما أن «تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى بغير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة، وهدم سور برلين، لتحلّ محلّه الليبرالية، وقيم الديمقراطية الغربية»، وقد وجّه فوكوياما رسالة للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، يطالبه فيها باحتلال العراق.
التيار الليبرالي الجديد في أمريكا والغرب، وضع نفسه، خلال عقد التسعينات، تحت تصرّف الدعوة الجديدة إلى هدم الأسوار بين الدول، ونشر القيم الغربية، وفتح الأسواق، وقد شهدت أوروبا، تحت تأثير تلك الدعوة، بدايات تراجع اليسار الأوروبي، كما سارت أمريكا نحو استعراض قوتها كقائدة للعالم، مع زيادة الحشد الأيديولوجي الذي يبشر بولادة عالم جديد أكثر انفتاحاً وإنسانية، مع الترويج لمقولة نهاية الدولة الوطنية، وولادة المواطن العالمي الذي سيتاح له التنقل والعمل في أرجاء العالم، من دون قيود، أو حواجز.
لا شك في أن تبدّلاً مهماً حدث في العلاقة بين الرأسمال والحكومات في الغرب، حيث تنامت قوة الشركات العابرة للقوميات والحدود، وفرضت مصالحها أكثر على عالم السياسة ومخرجاتها الدولية، حيث أصبحت مصالح تلك الشركات أهم بكثير من مصالح الحكومات، والشعوب، في التوازن الدولي، فما هو مهم فتح الأسواق، وانتقال البضائع، بعيداً عن أي قراءة استراتيجية لضرورات استقرار حالات السلم في المنظومة الدولية ككل، أو في المنظومات الإقليمية.
مكانة الفرد نفسها في المنظومة الليبرالية تراجعت، فإذا كان السياق الليبرالي للسوق والسياسة قد تأسس على قيم التنوير، والديمقراطية، وحقوق الفرد، فإن الليبرالية الجديدة التي طرحتها العولمة لم تعد ترى الفرد إلا جزءاً من ماكينتها الاستهلاكية الضخمة، بعيداً عما يمثّله من قيم بحدّ ذاته، كما أن فكرة المواطن العالمي القادر على التنقل والعمل بحرية سقطت في اختبار الواقع، فالتنقل عبر الحدود صار ميزة لشعوب ونخب محددة، ومرهوناً بمقاييس محددة، منها جنسية الأفراد، وقدراتهم المالية ومواقعهم الاجتماعية، بينما السمة العامة اليوم هي ارتفاع الجدران أمام مليارات البشر، الذين وجدوا أنفسهم تحت رحمة ظروف اقتصادية، وسياسية، واجتماعية بائسة، تلك الظروف التي فرضتها موجة العولمة الثالثة.
ليس غريباً في ظل مناخات كهذه، أن نرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يطالب ببناء جدار فصل مع المكسيك، من أجل الحد من الهجرة، وأن يطالب بفصل الأطفال المهاجرين عن ذويهم.
لم تعد العنصرية اليوم مرهونة بلون، أو عرق، وإنما عنصرية عالمية، تقودها نخب عابرة للقارات، والقوميات، والثقافات، فالمجتمعات والأفراد لا يشكلون سوى أسواق لاستهلاك منتجات تلك النخب، من دون أن ينالوا أية مكتسبات جدية، وهو ما يجعل من كل التنظير حول العولمة، والمواطن العالمي، وحقوق الأفراد، بحاجة إلى إعادة نظر جدية، كما يجعل من الضرورة بمكان، فكرياً وعملياً، مساءلة المنتجات الفكرية لليبرالية ، والأوهام التي صدرّتها، خلال العقود الماضية.

husammiro@gmail.com