عوض الدوخي يولد في الغربة بقايا خيال

24-06-2018

يوسف عبدالكريم الزنكوي

حين تكون في الغربة لفترة طويلة بعيدا عن نسمات الوطن، وتشعر كأنك أصبحت جزءاً من تلك الغربة البليدة، حينها تجبرك الغربة على تذكر كل لحظة من لحظات حياتك في أحضان الوطن، وتشعر عندها كأن ثانية واحدة من هذا الاستذكار تكفي لأن تستعيد فيها أجمل ذكريات الكويت، فتتلذذ باجترارها، حتى وإن احترقت بجمر صيفها، أو ارتجفت ببرد ليالي شتائها القارس، أو كتمت أنفاسك في غبارها الخانق، وحتى إن دخلت حرب الطرقات بمجانينها المسرعين إلى غير هدف.
تستذكر نقاشات الدواوين التي لا تحل أي مشكلة من مشكلاتنا حين جعلناها نحن، ولا أحد سوانا، مستعصية كلها حتى على فطاحل خبراء الغرب، ولا تسهم هذه الدواوين إلا باجترار “عوار القلب”… كلها تستعيدها وأنت تسير الهوينة تحت سماء ملبدة بغيوم قد تنذر بمطر صيف “على ناس وناس”، مستمتعاً بتلك النسمات الباردة، ومبتهجاً بهدوء تلك البقعة رغم زحمة المارة، وسعيداً بذلك الاخضرار الذي ملأ المكان بكل زرع بهيج، إلا من الـ “كيناكاربس”، فأصبح اللون الأخضر فقط متعة للناظرين الآتين من هاتيك الصحاري.
ثم فجأة وعند ناصية ذلك الطريق تسمع شدواً عربياً، وترنيمات خليجية، ودندنة كويتية صرفة تأخذك قسراً، لا طواعية، إلى أعماق ذلك الزمن الكويتي الجميل…”صوت السهارى يوم… مروا عليا… عصرية العيد…
أبطأ ركابه وراح… يسأل عليا … عصرية العيد”.
فتلتفت إلى مصدر نغمات هذه الأغنية الكويتية الجميلة الغارقة في أحضان الزمن الجميل، فإذا برجل عجوز قارب السبعين من العمر يرتدي قميصاً وبنطلوناً رثاً، وغطى رأسه بقبعة إفرنجية عتيقة ليحمي نفسه من مطر مرتقب، وقف يعزف على الكمان، ويشدو هذه الاغنية القديمة بإتقان ملحوظ.
من هو هذا الذي يعشق الكويت حتى أخذ يتغنى بأغانيها الرائعة؟ هل هو أحد الكويتيين الهاربين من الأحكام القضائية فأجبره الزمن على أن “يترزق الله” على ناصية الشارع، فلعل وعسى أن يعطف عليه أحد المارة ليرمي بفتات المال إلى صندوق الكمان، من أجل أن يسد جوع يومه، بعد أن كان هانئاً هناك في تلك الصحراء القاحلة؟
وتقترب منه لتستمتع بإبداعات عوض الدوخي، وتتلذذ برائحة الكويت وبالطيبين اللي راحوا، فتسرح بعيداً… نحو الكويت وأنت تردد معه…”ساعة ما شفته أنا… بالي انشغل (بالكويت).. ياللي بقيت بعيد… اليوم ذَا يوم عيد… كلي أمل ألقاك… متشوق لرؤياك… أبكي سنين وأيام… ليلي ونهاري ظلام… من فرقتك ما انام”.
هو وضع صندوق الكمان مفتوحاً، وقد تناثرت بعض القطع النقدية بداخله، يعرف أن من يستمع إلى شدوه الحاني الحزين لا بد أنهم كويتيون، أو على الأقل هم متذوقون للأنغام الخليجية، فيبادرهم بالتحية العربية، فيبادلونه بمثلها، فيعرف أنهم كويتيون.
هم يهنئونه على براعته ويشكرونه على إمتاعهم، فيقول إنه من العراق، لكنه شارك ذات مرة فرقة نجيب رزق الله بعض المعزوفات وكان حينها أصغر عازف فيها.
هم رفضوا أن يرموا النقود أمامه، فهو منهم طالما اشتم رائحة الكويت، وطالما أسمعهم ألحانها، وطار بهم إلى الكويت الجميلة، لهذا فهو منهم، وهو يستحق ورقة نقدية كبيرة توضع في يده الكريمة التي عزفت بكرم بالغ.
كم عراقيا يعشق الكويت وأهلها، وكم كويتيا يعشق العراق وأهلها، الى ان جاء صدام وجلاوزته ليطعن هذا العشق من الخلف؟
كم أبكتني هذه الأغنية وأنا مغرّبٌ في بلدي إبان الغزو العراقي الآثم على بلادنا”كلي أمل ألقاك… متشوق لرؤياك”، وكم عذبتني كلماتها وأنا مسجونٌ في فضاءاتها التي قتل العراقيون رحابتها، “أبكي سنين وأيام… ليلي ونهاري ظلام”، وكم أبكت هذه الأغنية الكويتيين، وهم في غربتهم الإجبارية إبان تلك الحقبة السوداء من تاريخ الكويت”من فرقتك ما انام”، وكم ستبكينا أكثر عندما نكون غرباء في بلادنا، ونحن ندعي الحرية والديمقراطية الورقية، فنحن نرى منذ سنين طوال أن من ارتضينا به مشرعاً وحامياً، ينقلب هاملاً لها وناهباً، وتنقلب حياتنا فيها “دراميا”، ورغم ذلك لا نسمع عن إنزال العقاب بمن سرق، فيهرب منها “الحراميا” حراً وناجيا؟
اعلامي كويتي