فلسطين والجنائية الدولية.. جدل القانون والسياسة

24-06-2018
كمال الجزولي

نعى الباحث والكاتب الهادي شلوف على الفلسطينيين انضمامهم، في 7 يناير 2015، إلى «نظام روما» الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، آخذاً عليهم بحسب تعبيره اختيار «الدعاية الرخيصة»، حيث إن هذا الانضمام، في رأيه، بلا طائل، فالشكاوى ضد دولة الاحتلال لن تخرج لأسباب قانونية كما قال من مكتب الادعاء إلى الغرفة التمهيدية، فلا «إسرائيل» ستنضم للمحكمة، ولا مجلس الأمن سيحيل الشكاوى إلى لاهاي (موقع رأي اليوم، 28 مايو 2018).
ولو أن الرجل لمح المسألة من زاوية أوسع، واضعاً في الاعتبار موقع القضية الفلسطينية وسط نضالات الشعوب، سياسياً من جهة، ودلالة تأسيس هذه المحكمة في مجرى الصراع بين الشعوب والأنظمة حول القانون الجنائي الدولي، من جهة أخرى، لكان توصل إلى استنتاج مغاير تماماً.
هذه المحكمة نشأت في سياقات تاريخية لتطور القاعدة القانونية الدولية، عبر جدليات «القانون» و«السياسة»، من الانغلاق على حقوق الدول، إلى الانفتاح على حقوق الأفراد والشعوب.
حدد ذلك خط التطور الرئيس للقانون الإنساني الدولي، والقانون الجنائي الدولي، منذ «اتفاقية جنيف للصليب الأحمر الدولي لسنة 1864»، التي عينت بجرائم الحرب، ونطاق المسؤولية عنها، ووسائل الحد منها، ثم «اتفاقيات لاهاي لسنة 1899 و1907»، التي سيّجت الحرب بأصول أكثر إنسانية. ولأن فظائع العسكرية الألمانية خلال الحرب الأولى، أنعشت آمال الملايين في إقرار أسس العدالة الجنائية الدولية، كشرط لإقرار أسس السلام العالمي، شهدت فترة ما بعد الحرب جملة معاهدات دولية بهذا الاتجاه، ك«معاهدة فرساي»، و«ميثاق عصبة الأمم» لسنة 1919، و«بروتوكول جنيف لسنة 1924»، وغيرها.
ولئن اتسمت جرائم الحرب الأولى بالبشاعة، فإن جرائم الحرب الثانية جاءت أكثر بشاعة، لترتفع مطالبات الشعوب بقضاء دولي لملاحقة مرتكبيها، مما دفع الحلفاء لإنشاء محكمتين جنائيتين دوليتين خاصتين ومؤقتتين؛ «محكمة نورمبرج» لقادة المحور في أوربا، و«محكمة طوكيو» لمجرمي الحرب في الشرق الأقصى.
وفي دورة انعقادها الأولى (نوفمبر 1946)، أنجزت الجمعية العامة، وهي المؤسسة الأكثر ديمقراطية ضمن الهيكل العام للأمم المتحدة، تقنين «مبادئ نورمبرج»، كمبادئ للقانون الجنائي الدولي، وأهمها: فردية المسؤولية الجنائية الدولية، وعلوية القانون الجنائي الدولي على الداخلي، وعدم الاعتداد، لا بحصانات القادة والرؤساء، ولا بالدفع بتنفيذ أوامرهم.
ورغم أن المحكمتين شكلتا نقطة تحول تاريخية فاصلة في تطور القانون الجنائي الدولي، ، إلا أن العالم ألفى نفسه متورطاً في حوالي 250 نزاعاً مسلحاً، انتهكت خلالها حقوق الإنسان، وخلفت ما بين 70 و170 مليون قتيل، نتيجة للردة عن «نورمبرج وطوكيو»، والمساومة بالمسؤولية الجنائية عن أرواح الضحايا، ومبادئ العدالة، لقاء ترضيات سياسية متبادلة!
هكذا تفاقمت جرائم الحرب، وشاعت انتهاكاتها، وتكرس الإفلات من العقاب.
مع ذلك لم ينقطع صراخ الضمير الشعبي العالمي، واحتجاجات المجتمع المدني الدولي، وجهود الحكومات والأنظمة الديمقراطية في المطالبة بقضاء دولي فعال، لتعقب الجناة ومحاكمتهم.
وحين زلزل الضمير العالمي زلزاله مجدداً، على خلفية مآسي تسعينات القرن المنصرم المروعة، بعد انقضاء عقود طوال من «نورمبرج وطوكيو»، تشكلت مرة أخرى بموجب قرارات مجلس الأمن، محاكم «مؤقتة»، كمحكمة «سيراليون»، و«يوغسلافيا السابقة» بلاهاي، و«أروشا» بتنزانيا، لكن لأن ذلك النوع من التطبيقات المتقطعة المؤقتة لم يعد مقنعاً، ارتفعت أعلى من أي وقت مضى المطالبات الشعبية الديمقراطية باجتراح قضاء دولي «دائم»، فانعقد بالعاصمة الإيطالية، بين 15 يونيو، و17 يوليو 1998، مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي الذي اعتمد «نظام روما لسنة 1998» لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2002، كمحكمة «دائمة» تختص بمحاكمة ما يعرف في «النظام» ب«أكثر الجرائم خطورة في موضع الاهتمام الدولي»، وتحديداً «الإبادة الجماعية»، و«جرائم الحرب»، و«الجرائم ضد الإنسانية».
تلك هي الحقائق الابتدائية التي ينبغي عدم إغفالها لدى الحديث عن هذه المؤسسة، فيجدر بالفلسطينيين، بالذات، ألاَّ ينأوا بأنفسهم عن أي جهد يبذل في دعمها، وقد أحسنوا بالفعل صنعاً بانضمامهم إليها.

kgizouli@gmail.com