من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري محبرة وقلم

20-06-2018

مشعل عثمان السعيد

النجوم أجسام كروية مشعة في الفضاء، تبعث كميات هائلة من الطاقة في أنحاء الكون، وتعد من أهم مصادر الطاقة في هذا الكون الواسع، وتدل على عظمة وقدرة الخالق عز وجل، وبها يهتدي ساري الليل ولأنها مخلوقات عظيمة أقسم بها المولى وقال: “والنجم إذا هوى” “1” النجم، ولا أود أن أبحر بعلم النجوم، فلهذا العلم أهله، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وعندما تتأمل بيت الشعر نجد أن هذا الشاعر وصف من امتدح بالنجوم التي يسري بها الساري، وهو وصف بليغ، فعندما يصف الشاعر رجلا بالنجم فقد بالغ في الثناء، وكفى ووفى.
صاحب هذا البيت شاعر جاهلي اسمه عبيد بن العرندس الكلابي، وبنو كلاب قبيلة عامرية فهم كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ولهذا البيت قصة ذكرت في الكامل في اللغة والأدب، فقد ذكر أن عبيداً هذا قصد ثلاثة أخوة من بني غني، فامتدحهم فجعلوا له عليهم في كل سنة ذودا، فكان يأتيهم كل سنة فيأخذ الذود، ومما قاله فيهم:
يا دار بين كليات وأظفار
والحمتين سقاك الله من دار
على تقادم ما قدر مر من عصر
مع الذي مر من ريح وأمطار
ثم يقول في هؤلاء الاخوة:
هينون لينون أيسار ذوو يسر
سواس مكرمة أبناء أيسار
لا ينطقون على العمياء إن نطقوا
ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
فيهم ومنهم يعد المجد متلدا
ولا يعد نثا خزي ولا عار
وإن تلينتهم لانوا وإن شهموا
كشفت أذمار حرب غير أغمار
إن يسألوا العرف يعطوه وإن جهدوا
فالجهد يكشف منهم طيب أخبار
والعرب جبلوا على المدح والهجاء وهم لا يمدحون إلا من يستحق المدح، ولا يذمون إلا من يستحق الذم، روي أن هشام بن عبدالملك حج قبل أن يتولى الخلافة، فجهد أن يصل إلى الحجر الأسود من شدة الزحام، فنصب له منبرا فجلس ينظر إلى الحجاج وكثرتهم وحوله جنود الشام وبالقرب منه الفرزدق الشاعر، وبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه وعن أبيه وجده وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة، فجعل يطوف، فإذا بلغ الحجر تنحى عنه الناس حتى يستلمه هيبة له وإجلالا، فأعجب به أهل الشام، ولم يكونوا رأوه قبل ذلك، فسأل هشام: من هذا الرجل؟ وهو به عارف، فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك: من هذا؟ بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة، لا تخشى بوادره
يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام، اذا افتدحوا
حلو الشمائل تحلو عنده نعم
ما قال: لا قط، إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاءه نعم
عم البرية بالإحسان، فانقشعت
عنها الغياهب والإملاق والعدم
إذ رأته قريش قال قائلها
الى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء، ويغضى من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحه عبق
من كف أروع في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
الله شرفه قدما، وعظمه
جری بذاك له في لوحة القلم
اي الخلائق ليست في رقابهم
لأولية هذا، أو له نعم
من يشكر الله يشكر أولية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
ينمى الى ذروة الدين التي قصرت
عنها الأكف، وعن ادراكها القدم
من جده دان فضل الأنبياء له
وفضل أمته دانت له الأمم
مشتقة من رسول الله نبعته
طابت مغارسه والخيم والشيم
ينشق ثوب الدجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم
من معشر حبهم دين وبغضهم
كفر وقربهم منجى ومعتصم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
في كل بدء ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل: “من خير أهل الارض؟” قيل: هم
لا يستطيع جواد بعد جودهم
ولا يدانيهم قوم، وإن كرموا
هم الغيوث، إذا ما أزمة أزمت
والأسد أسد الشرى، والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم
سيان ذلك: إن أثروا وإن عدموا
يستدفع الشر والبلوى بحبهم
ويسترب به الاحسان والنعم
فغضب هشام وأمر بحبسه بعسفان بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبعث له علي بن الحسين باثني عشر ألف درهم وقال له: أعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك، فردها الفرزدق وقال: يا بن رسول الله، ما قلت ما قلته إلا حبا لله ورسوله وقرابته، وما كنت لاخذ علی هذا شيء، فردها له زين العابدين وقال: بحقي لما قبلتها، فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك، فقبلها.
اكتفي بهذا القدر.
جف القلم ونشفت المحبرة، في أمان الله.
كاتب كويتي