القارة العجوز فقدت هيبتها

26-05-2018
إلياس سحاب

طالما أثار تعبير «القارة العجوز»، الذي يقال في وصف القارة الأوروبية عدداً من الملاحظات السياسية. هل هو تعبير دقيق له مواصفات علمية كاملة، أم إنه مجرد تعبير عن عنجهية القارة الأمريكية التي لم تعد ترى في النفوذ الأوروبي على الساحة الدولية، ما يساوي نفوذها.
الحقيقة أن القرن العشرين كان الساحة السياسية التاريخية التي جرت في أثنائها هذه التحولات الكبيرة في ساحة الدول الكبرى، والقوى الكبرى على ساحة النفوذ الدولي. فمطلع القرن العشرين، حتى ربعه الأول، كان ساحة لتمارس القوى الأوروبية الكبرى صراعها الكبير، في مجرى الحرب العالمية الأولى، بعد أن ملأت القرن التاسع عشر بأكمله، خاصة بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في مطلع ذلك القرن، لتتقاسم القوى الأوروبية هيمنتها الاستعمارية بتوزيع وتقاسم النفوذ الأوروبي على سائر بقاع الكرة الأرضية.
وكان بديهياً أن تصل هذه الهيمنة الأوروبية في النفوذ على سائر بقاع الكرة الأرضية، إلى مرحلة جديدة بعد قرن كامل من التمدد (1815-1914)، مع ملاحظة أنه لم يكن في ذلك القرن من منافس لتمدد النفوذ الدولي للقارة الأوروبية، إلا نفوذ الإمبراطورية العثمانية، القادم من الشرق، والمسيطر على بعض مناطق القارة الأوربية نفسها.
هذا الواقع من الصراع الدولي الذي امتد على طول القرن التاسع عشر، وكان مقرراً أن يصل إلى حالة تفجر جديد في الحرب العالمية الأولى، التي استمرت بين عامي 1914 و1918، ولكن الصراع شهد تجمعاً استعمارياً في النفوذ الأوروبي، في مواجهة النفوذ المواجه للإمبراطورية العثمانية.
لذلك؛ ومع أن المشهد النهائي في الحرب العالمية الأولى كان يشي بسيطرة الجناح الأوروبي في صراع النفوذ العالمي الدائر، فقد شهدت أحداث نهاية هذه الحرب وتصفية نتائجها النهائية أكثر من مسار:
1- بسط سيطرة النفوذ الأوروبي وتقاسم مراكز النفوذ في القارتين القديمتين آسيا وإفريقيا حتى فترة طويلة أخرى استمرت حتى ما يقارب منتصف القرن العشرين.
2- ظهور قوة جديدة في ساحة النفوذ الدولي، بدت في البداية عبر منافسة لتقاسم النفوذ بين الرابحين الأوروبيين في نهاية الحرب العالمية الأولى، فهي دخلت المجال الدولي لا لتقاسم النفوذ مع المنتصرين الأوروبيين، بل ظهرت في وثيقة الرئيس الأمريكي ويلسن، أشبه بمخلص للشعوب من النفوذ الأوروبي القادم إليها.
لكن هذه الحرب عرفت كسابقتها مسارين مختلفين:
1- مسار انتصار القوة الأوروبية التي تمثلت في محور الحلفاء مع الجناح الأمريكي، على القوى الأوروبية الأخرى التي تمثلت في محور النازية الألمانية والفاشية الإيطالية واليابان.
2- خرجت من ركام تلك الحرب العالمية الثانية، قوة دولية جديدة من خارج القارة الأوروبية، هي قوة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كشرت عن أنيابها الاستعمارية، واستفادت إفادة كبرى من تهالك القارة الأوروبية تحت الأعباء الباهظة للحرب العالمية الثانية.
وقد ظهر تجلي هذه القوة الدولية الجديدة أول ما تجلى، في أن لعبت الولايات المتحدة، من بين جميع المشاركين في الحرب العالمية الثانية، دور صناعة المشهد المأساوي الأخير في هذه الحرب، والذي تمثل في إلقاء قنبلتين هيدروجينيتين على كل من هيروشيما وناجازكي اليابانيتين.
بعد ذلك، فإن رأي المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي، بأن النفوذ الإمبراطوري لكل من القوتين الأوروبيتين القديمتين؛ فرنسا وبريطانيا قد غرق في قناة السويس، عندما أممها جمال عبد الناصر، وفشلت الدولتان في الهجوم العدواني على مصر، لمنع التأميم.
تلك كانت النقطة التاريخية التي شهدت بداية دخول القارة الأوروبية طور الشيخوخة في نفوذها الدولي، وظهور النفوذ الدولي الجديد للقوة الجديدة القادمة من وراء البحار: قوة الولايات المتحدة.
لذلك، فان النصف الثاني من القرن العشرين كان بكامله مجالاً لظهور النفوذ الأمريكي الجديد، بالتقاسم مع نفوذ الاتحاد السوفييتي (عصر الحرب الباردة)، ثم التفرد بالنفوذ الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
هذه هي الخلفية التاريخية التي يدور على مسرحها الآن ذلك الصراع غير المتكافئ حالياً.
وباختصار شديد يمكن القول إن هذا الصراع سيكشف عن تراجع النفوذ الدولي للقارة العجوز، أمام نفوذ الولايات المتحدة، بحيث يكون مؤدياً لتسجيل تراجع هيبة أوروبا العجوز إلى أدنى مستوى وصلت إليه حتى اليوم.