العالم وفلسفة العيش المشترك

26-05-2018
الحسين الزاوي

شهد الحقل الفكري والسياسي الدولي في الآونة الأخيرة تداولاً وتوظيفاً متزايداً لمقولة «العيش المشترك»، التي تُفصح عن وجود أزمة حضارية كونية، مرتبطة بعودة غير مسبوقة للهويات القومية الرافضة لسياسات العولمة، الساعية إلى تجاوز الحدود الفاصلة بين الثقافات والأديان والأعراق المختلفة.
وتشير هذه المقولة إلى الروابط السلمية وإلى التفاهم الذي يعمل على تحقيقه أفراد وشعوب وعرقيات، كما يعبِّر عن تقبل مجموعة سكانية في سياق بيئة متنوعة ومتعددة اجتماعياً وثقافياً، لفكرة تقاسم مكان عيشهم مع الآخرين بطريقة سلسة ومتناغمة. وبحسب المجلس الأوروبي، فإن قيم العيش المشترك تستوجب احترام 3 عناصر رئيسية.
أولاً: حرية التعبير وتعددية الآراء. ثانياً: احترام الكرامة الإنسانية والتعددية الثقافية وحقوق الآخرين، بهدف إيجاد بيئة مشتركة قائمة على التفاهم والتسامح. ثالثاً: مشاركة كل المواطنين في الشأن العام.
وسنحاول في هذه العجالة أن نستعرض بشكل مختصر، جملة من الأفكار الأساسية المتعلقة بفلسفة العيش المشترك، انطلاقاً من النقاط الثلاث التالية:
1 العيش المشترك وثنائية الهوية والغيرية: وتتضمن هذه النقطة القسم الأكبر من الأطروحات المتعارضة المرتبطة بهذه الفلسفة، لأنها تتصل بمدى تقبل الذات لفكرة حضور الآخر داخل كيانها الوطني، وتحيل إلى مجموعة من المواضيع المرتبطة برهانات العيش المشترك، والتي لا يتسع المجال هنا لبلورتها وتحليلها بشكل مفصّل، ويمكننا الإشارة إليها من خلال مجموعة من الأفكار الرئيسية من قبيل:
جدلية الكوني والمحلي التي تفترض إقامة جسور تواصل حضاري بين خصوصية الذات وكونية الآخر، وحق الأقليات في الحضور الفاعل داخل المجال العمومي، وإقامة دولة المواطنة التي لا تضع تمييزاً ما بين أفراد المجتمع على أساس عرقي أو ثقافي أو ديني.
التسامح وقبول التنوع والاختلاف، ورفض المركزيات الحضارية سواء كانت غربية (مسيحية، يهودية) أو إسلامية أو آسيوية (بوذية، كنفوشيوسية، هندوسية...)، والإيمان بفضائل القيم الإنسانية المشتركة.
ونستطيع أن نؤكد في هذا المقام، أن الفكر الفلسفي انتقل عبر تاريخه الحديث من الوعي المنغلق على ذاته مع ديكارت، إلى الوعي التواصلي الذي يقيم جسوراً للحوار ما بين الذوات المختلفة.
ويشير جاك دريدا في هذا السياق، إلى أن مشروع السلام الدائم الذي تحدث عنه إمانويل كانط، والذي كان يهدف إلى تجاوز حالة الهدنة المؤقتة، بغرض الوصول إلى سلام دائم، يرتبط في الأساس بفكرة الضيافة التي ترمز إلى التعايش و«المساكنة» المشتركة؛ لأن الضيافة تعني تقبل وجود الآخر بما هو غريب وأجنبي ومجهول، وليس فقط الآخر المحلي الذي نتقاسم معه هويتنا القومية أو الحضارية، وصولاً إلى تقبل إرادي واعٍ لهوية طبيعية مشتركة للإنسان، وفق ما يذهب إليه بول ريكور.
2 - بهتان أو أكذوبة العيش المشترك: وهي صياغة تبدو صادمة بعض الشيء، يحاول أن يدافع عنها بول فرانسوا باولي، الذي أوضح أن مقولة العيش المشترك جرت بلورتها من طرف أقطاب الفكر اليساري خدمة لأهدافهم الإيديولوجية، وتحيل إلى عبارة بلاغية وإشهارية فارغة؛ لأن العيش المشترك يفترض وجود عالم مشترك، وتحقيق الحد الأدنى من التمثيل المتبادل.
وبالتالي فإنه لا وجود لما يسمى بالعيش المشترك بالنسبة لأفراد يتمسكون بهويتهم المنغلقة، ويرفضون احترام قيم المجتمع الذي يعيشون بداخله، ويعملون من ثمة على استباحة المجال العمومي من خلال غلق فضاءات تواجدهم، والسيطرة على أحياء مدن بأكملها، بما يجعل الذات تشعر بالغربة في موطنها؛ ذلك أن نموذج هذا الآخر المختلف لا يقوم بممارسة سلوك منفتح يشجّع الذات التي تقوم بواجب الضيافة، على تقبّله وفق صيغة توافقية يمكنها أن تسهم في تحقيق الاحترام المتبادل.
3 - العيش المشترك عن بعد: ويمكن تسميته أيضاً بالعيش المشترك الرقمي؛ لأنه يشير إلى وجود مجموعة بشرية رقمية تعيش وضعية انفصال مكاني أو جغرافي عن بعضها بعضاً، وتتواصل فيما بينها اعتماداً على التكنولوجيات الحديثة وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، كما تعتمد في عيشها على «الحضور التليفوني»، الذي يؤدي إلى تشجيع مجتمعات الشتات على التواصل الرقمي، كبديل للتواصل الواقعي مع السكان، الذين تتقاسم معهم الواقع الجغرافي والمجتمعي. وهذا الشكل من التعايش، وإن كان يسمح بالمحافظة على الانتماء والهوية الأصلية لأفراد الشتات، إلا أنه عادة ما يُسهم في تشجيع السلوك الثقافي القائم على الشعبوية، ويقضي تدريجياً على الفكر النقدي وعلى حرية التفكير، ويؤدي إلى رفض الرأي المخالف.
وعليه فإن العولمة التي كان يُفترض أن تدفع العالم إلى الانفتاح بشكل أكبر على قيم الاختلاف والتنوع، قادت بشكل مفاجئ نحو عودة غير مسبوقة إلى الهويات المتشنجة، التي تشجِّع على الانغلاق والخوف من الآخر المختلف.

hzaoui63@yahoo.fr