خصوبة الإبداع وثراء النقد

23-05-2018
د. حسن مدن

قلنا غير مرة، هنا، إننا نمقت التبشير بما دعوناه «سلسلة الميتات»: موت الشعر، موت الفلسفة، موت المؤلف، موت النقد، وهذا المقت ينسحب على التبشير بنهاية التاريخ ونهاية الإنسان، وما إلى ذلك من نهايات.
مدخل مثل هذا ضروري لما سآتي عليه الآن من حديث عن تراجع النقد الأدبي والفني، للتأكيد على أن هذا التراجع، في حال اتفقنا أنه واقع فعلاً، لا يمكن أن يحملنا على الانسياق مع دعاة موت النقد، المنخرطين في جوقة «الميتات» التي أشرنا إليها أعلاه.
وقعتُ في أرشيف قديم على مقابلة مع الناقد الكبير المرحوم الدكتور إحسان عباس، تعود إلى بدايات الثمانينات الماضية، وكان محورها النقد وتراجعه. الحق أن مُحاور عباس لم يستخدم، آنذاك، عبارة «موت النقد»، كما هو رائج اليوم، وإنما سأله عما وصفه ب «أزمة النقد». وذهب جواب إحسان عباس إلى القول بأنه طالما كنا نعاني من أزمة عامة في كل شيء، فلماذا لا تطال هذه الأزمة النقد نفسه، هي التي تغطي كل المجالات.
لكنه ربط الأمر بالأدب، فإذا كان الأدب في تراجع، فإن النقد، بالنتيجة، سيتراجع، وبالمقابل فإن الأدب المهم ينتج عنه نقد مهم، فالنقد لا يمكن أن يكون مستقلاً، حتى في حالات الميل إلى التنظير الأدبي، أو الثقافي، فإن ذلك يظل متصلاً بالنماذج الأدبية اللافتة.
مع ذلك، فالاستدراك عند إحسان عباس قائم، تبعاً للزمن الذي أنتج فيه الأدب. المتنبي كان شاعراً عظيماً، وربما احتفى به معاصروه، لكن هذا الاحتفاء لم يبلغ حد فهم الشاعر واستنباط عبقريته الشعرية، فلم يكن ما هو متيسر من «أدوات» للنقد كافياً لبلوغ المكامن الخفية، الأكثر غنى وعمقاً، في شعر المتنبي. وهذا، على كل حال، ينطبق على النصوص العظيمة التي تزداد قيمتها بمرور الزمن، حيث يكتشف فيها اللاحقون ما لم يدركه الأولون.
والسر في ذلك ليس لغزاً. الأدب العظيم الذي يعيش، ويزيده الزمن تألقاً هو ذاك الذي يقارب قضايا إنسانية عابرة للزمن، ربما لأن أصحابها أفلحوا في المزج الخلاق بين العمقين الفكري والعاطفي، وإلى هذا يضيف إحسان عباس شرطاً يتصل بالنجاح في اختيار الشكل الأدبي الملازم.
ولنعد إلى علاقة النقد الجيد بالأدب الجيد. استشهدنا بشعر المتنبي للقول إن من يكتب عن هذا الشعر يجد سعة في القول يوفرها له عمق هذا الشعر وغناه، وهو ما لا يوفره شعر شاعر آخر أقل وهجاً. وما يصح على شعر المتنبي يصح على حكايات «ألف ليلة وليلة»، وإذا ما انتقلنا إلى الأدب العالمي نجد أن ما يمكن أن يكتب عن شعر شكسبير، أو عن السرد الساخر الثري في «دون كيشوت» سرفانتس، يكون أكثر غنى وخصوبة عن النقد الذي يتناول أعمالاً أخرى لم تبلغ مراتب العمق والإبداع نفسها.

madanbahrain@gmail.com