أوروبا والعقوبات الأمريكية على إيران

23-05-2018
د.غسان العزي

منذ بداية المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، جاهد الأوروبيون للتوصل إلى اتفاق سلمي يحقق مصلحتهم الأمنية القومية أولاً بالحؤول دون حصول إيران على السلاح النووي، والاقتصادية ثانياً بالدخول إلى السوق الإيراني الواعد. لذلك فمن المفهوم أن يتمسكوا بالاتفاق رغم خروج واشنطن منه وأن يعملوا مع طهران على المحافظة عليه لاعتقادهم بأنه يمنعها من تطوير أي سلاح ذري. وقد لخصت فريدريكا موجوريني الموقف الأوروبي بالقول إن الاتفاق النووي «من أهم الإنجازات الدبلوماسية التي تحققت مؤخراً» رغم أن الرئيس ترامب اعتبره «كارثياً» فحقق وعده الانتخابي بالانسحاب منه في الثامن من مايو/أيار.
لكن المشكلة بالنسبة للأوروبيين ليست فقط في خروج واشنطن من الاتفاق وإنما في العقوبات التي أقرتها على الشركات التي تتعامل مع إيران والتي ستبدأ في تطبيقها تدريجياً اعتباراً من شهر أغسطس/آب المقبل. مشكلة أوروبا أن عليها أن تقدم منافع لإيران تعوض عليها ما ستخسره جراء العقوبات الأمريكية، وذلك كي لا تخرج هي الأخرى من الاتفاق فيضحى ترامب «عراب القنبلة النووية الإيرانية» على ما حذر لافروف. لكن أوروبا لا تملك ما تقدمه وهي أصلاً ربما تعجز عن تفادي العقوبات التي ستصيب شركاتها.
تعاني الاقتصادات الأوروبية من أزمات عديدة، فبحسب الجهاز الأوروبي للإحصاء (يوروستات) بلغ إجمالي ديون الاتحاد الأوروبي ١١ تريليون يورو (١٤ ألف مليار دولار)، كما أن منطقة اليورو، التي تضم سبع عشرة دولة، سجلت في أغسطس/آب من العام الماضي ارتفاعاً قياسياً بمعدلات البطالة لم تشهدها منذ تأسيسها في العام ١٩٩٩، إذ وصل عدد العاطلين عن العمل فيها الى ١٨،٢ مليون إنسان.
وأوروبا هي المعنية أكثر من غيرها بالعقوبات الأمريكية؛ لأن روسيا اعتادت العمل في أجواء علاقات متأرجحة مع أمريكا وتحت ضغوط العقوبات الاقتصادية، وبدورها فالصين المحتاجة للنفط والشريك التجاري الأول لإيران، لن تمتثل للعقوبات بل أكثر من ذلك أعلنت بأنها جاهزة لحرب تجارية إذا ما أصر الأمريكيون على فرض الرسوم على صادراتها لهم من الحديد والصلب، وهي في مفاوضات معهم بهذا الشأن.
شركات ومصارف أوروبية عديدة سوف ترتدع عن توقيع عقود مع إيران وبعضها أعلن انسحابه من السوق الإيراني، وذلك بعد أن راحت الدول الأوروبية، غداة توقيع الاتفاق النووي، تتسابق على توقيع العقود وكسب المزيد من الحصص في هذا السوق. بالنسبة لفرنسا على سبيل المثال لا الحصر زادت صادراتها لإيران من ٥٦٢ مليون يورو في العام ٢٠١٥ إلى ١،٥ مليار في العام ٢٠١٧، كذلك وارداتها فقد تخطت ٢،٣ مليار يورو- وهو المستوى الأعلى منذ العام ٢٠٠٨- في مقابل ٦٦ مليوناً العام ٢٠١٥.
من هنا، حراك الرئيس ماكرون حيال واشنطن ونظرائه الأوروبيين في محاولة لإنقاذ الاتفاق النووي والتوصل إلى صيغة أوروبية موحدة لمواجهة العقوبات الأمريكية. وقد أعلن بأن الاتفاق ليس مثالياً لكنه يتمسك به في غياب البديل وبأن هذا التمسك لا يعني بأن فرنسا أو أوروبا ستضحى حليفة لإيران. كما أعلن بأنه لا يستطيع منع الشركات الفرنسية من اتخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة. وقد نجحت قمة الاتحاد الأوروبي في صوفيا في ١٥ مايو/أيار الجاري في تظهير موقف أوروبي موحد لتخطي العقوبات الأمريكية عبر تبني «نظام المنع» أو«قانون الحجب» الصادر في العام ١٩٩٦ لمواجهة قانون «هيلمز-بيرتون» الأمريكي الهادف إلى محاصرة كوبا بغية إسقاط نظامها، ثم قانون «داماتو» ضد إيران وليبيا. وقتها أعلن رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان بأن القوانين الأمريكية تطبق في أمريكا وليس خارجها، داعياً الشركات الفرنسية إلى تجاهل العقوبات الأمريكية. وقد نشبت «حروب» تجارية كثيرة بين أوروبا وأمريكا ( حرب «بقر الهرمون» و«الحديد والصلب» و«البذار المعدل جينياً» و «الموز»الخ.) كان يتم في كل مرة حلها بطريقة دبلوماسية.
قانون الحجب يتيح للشركات والمحاكم الأوروبية عدم الخضوع لقواعد وتشريعات ناتجة عن عقوبات تتخذها دول ضد أخرى ويعتبر أن أي حكم تصدره محاكم أجنبية على قاعدة هذه التشريعات لا يمكن تطبيقه في الاتحاد الأوروبي. لكن الخلاف الأوروبي- الأمريكي حول قانوني «هيلمز-بيرتون» و«داماتو» تم حله سياسياً في عهد كلينتون وبالتالي لم تثبت فعالية قانون الحجب الأوروبي.
اليوم نحن في عهد ترامب وليس كلينتون، ثم إن الموقف الأوروبي الموحد الذي ظهر في مؤتمر صوفيا يخفي تباينات في المواقف والمصالح. أوروبا الشرقية والوسطى كما بريطانيا تعتبر بأنها أقرب إلى واشنطن منها إلى أوروبا، وهذه الأخيرة ليست قوية اقتصادياً ولا سياسياً بما يكفي لمواجهة الرئيس الأمريكي الذي يمتهن سياسات حافة الهاوية.