طابق خامس وكسر أسنان

25-04-2018
يوسف أبو لوز

خبران متصلان أو متوازيان في بحر أسبوع ،المضمون واحد مع الاختلاف في الشكل أو في الأدوات: مقتل الصحفي الاستقصائي الروسي مكسيم بورودين= في الثلاثين من عمره= في ظروف غامضة إثر سقوطه من شرفة منزله في الطابق الخامس بعد إجرائه سلسلة تحقيقات صحفية كشفت دور المرتزقة الروس (فاغنر) في الحرب في سوريا إلى جانب القوات الروسية وقوات النظام السوري، ومقتل العشرات منهم في دير الزور، وفوق ذلك أجرى هذا الصحفي الشجاع تحقيقات أخرى حول فضائح سياسية وقضايا فساد في روسيا.
مقتل مكسيم بورودين ليس انتحاراً، بل جريمة، والمرتزق، أي بكلمة ثانية «عضو المافيا» يستطيع القتل في بلده كما يقتل في أي بلد آخر.. هذا ما تقوله الأخبار وهذا ما تؤكده الحيثيات والوقائع، وعلى مستوى الإعلام العربي لم يكن موت صحفي روسي في بلده ذا أهمية خبرية لو لم يتصل الحادث بما كشفه عن مافيات المرتزقة في بلد عربي.
لم نقرأ التحقيقات التي أجراها «بورودين»، فهي أصلاً موجهة إلى قارئ روسي غرقت بلاده في سوريا، وما كتبه بقلم جريء، ينطوي في الوقت نفسه على موقف، ويصدر عن مبدأ أخلاقي في مهنة الصحافة، وهو يعرف أن المبادئ والمواقف الجريئة والشجاعة تكلف ثمناً يصل إلى الموت ،ومع ذلك لم يخن ضميره».
لماذا يموت صحفي في ظروف غامضة في بلده، وفي تدخل أكثر غموضاً «بل وضوحاً» لبلده في بلدان الآخرين؟؟
سؤال، ببساطة، له علاقة بالضمير.
لا ضمير للقاتل، أي قاتل، ولا ضمير أيضاً وطنياً أو إنسانياً أو أخلاقياً لثلاثين شاباً من الحزب الأصفر اعتدوا بالضرب المبرح على الصحفي اللبناني علي الأمين في بلدته «شقرا» وكسروا ظهره وأسنانه في عصاب سياسي مجنون لا يصدر إلا عن جهلة ومرضى ودائخين في أبخرة العنف والانتماءات العمياء.
علي الأمين.. الكاتب الصحفي الذي عرفناه في الصحف ومعلقاً، أحياناً على بعض الأحداث السياسية.. هادئ الطبع، وموضوعي التحليل والتعليق. هو الآخر جريء وشجاع ويكتب أو يتكلم تبعاً لمعلومات في الدرجة الأولى من دون تشنج أو انفعال صحفي إنشائي.
علي الأمين ضد الحكي السياسي حدّ التخمة والغثيان. رفع لائحة بسيطة بيروتية بلهجة لبنانية نحبها.. «.. شبعنا حكي..»، وكان يقوم بدعاية انتخابية لنفسه بلا تمويل وبلا زعرنة ولا تشبيح. رجل يرفع صورته بيده لا بأيدي الآخرين المستوردين من إنتاج مصانع المذهبية والطائفية.. المدججين بحشديات الثأر والكراهية.
كان على حافة الموت، ونجا ليس بأعجوبة، ولكن بواقعية، لأنه مثل زميله «اللاروسي» مكسيم بورودين.. مبدئي وشجاع، والكلمتان مرة ثانية تستدعيان كلمة مريرة دائماً هي: «الثمن».
لم نعرف «بورودين» جيداً، ولكننا نعرف الكثير من الضميرية الصحفية اللبنانية المثقفة والحيادية والرجولية.. عندما تضرب عصب الارتزاق والمافيا والتشبيح.. حتى لو كلف ذلك كسراً للظهر والأسنان.. أو الرمي من الطابق الخامس.

yabolouz@gmail.com