السير عكس التيار لغوياً
ماذا تعني العربية الفصحى؟ يلوح السؤال هراء، لكن القضية ليست بهذه البساطة. لغتنا، حتى اليوم، لا تملك معجماً لتطوّر المعاني عبر العصور، مع ذلك في مكتبتنا عدد كبير من الكتب التي تتناول لحن الخواص وأخطاء العوام، قديماً وحديثاً. شهد القرن العشرون أعلام تصويب كالدكتور مصطفى جواد، د. محمد العدناني وغيرهما من مقوّمي لغة الأدباء والإعلاميين، فما هي الفصحى؟ إذا ظنّ أحد أن عربية العصور الإسلامية هي عربية الجاهلية، التي هي بدورها عربيّات شتى، فهو واهم. في الأزمنة الإسلامية اجتاح اللغة تسونامي إيجابيّ من العلوم والمعارف، غيّر طبيعة التفكير والتعبير، وصياغة الجمل ونسج التراكيب، وأضاف إلى المفردات معاني لو سمعها لبيد أو زهير لجنّ جنونه. ثورة التغيير انطلقت من القرآن ولا شك، الذي أتى بمعجم جديد قبل ظهور العمل المعجميّ بقرن. ثم جاءت الثورة اللغوية الثانية في تيارات الفلسفة والعلوم اليونانية، والأمم الأخرى بموروث حضاراتها، وميراث ثقافاتها. حتى النحاة وسائر علماء اللغة تأثروا بالفلاسفة اليونانيين. تلت ذلك ثورات لغوية أخرى من أهمها المصطلحات الصوفيّة، التي ظهرت فيها روافد الطاويّة الصينية والبوذية والهندوسية والأفلاطونية الجديدة، فصار للمتصوفين معجم مختلف تماماً عن معاني الألفاظ العربية المعهودة، بدخول الرمزيّة من أوسع باب. حاولْ أن تشرح أشعار المتصوفة بظاهر الكلمات اللغويّ، لا بالمدلولات الاصطلاحية في معاجم التصوف التي هي ذاتها متباينة في المضامين جرّاء اختلاف مذاهب العرفاء، ومدى قربهم أو بعدهم من الفقه والفلسفة، ومسافتهم من وحدة الوجود وغيرها.
هنا المعمعة الكبرى في قضية نسبيّة الفصحى، التي يبدو أن بعض اللغويين لا يكترثون لها فيقعون في فخ ساخر، لأنهم يتوهّمون أن الفصحى تعني سلامة التزام قواعد النحو والصرف لا غير. نحن ننزّههم عن هذه السذاجة. اللغة تتطوّر، فالفصحى ليست الشكل فقط، بدليل أنك لو وضعت أروع قصيدة صوفية بين يدي نحويّ متزمت لحكم على صاحبها بأنه جاهل لا يفقه العربية مع سلامة القواعد. حاول فهم نص اقتصاديّ أو علميّ أو رياضيّ أو حتى سياسيّ، واشرحه بمعاني الخليل والجوهري والفيروز آبادي، ستراك في السريالية واللامعقول. من الصعب أن نبوح بالواقعية المؤلمة للكثير من اللغويين: التطوّر له أحكامه، فالكثير من فصحى العصور الإسلامية، يعدّ أخطاء بمعايير الجاهلية، وجلّ فصيحنا اليوم الله يساعده في محاكم التفتيش اللغويّة قديماً.
لزوم ما يلزم: النتيجة الغرائبية: هل يُعقل أن لغتنا تتطوّر بينما نحن نرفض تطوّرها؟ أين معجم تطوّر المعاني؟
abuzzabaed@gmail.com