عجوز همنجواي وبحره

19-04-2018
د. حسن مدن

انطبعت «العجوز والبحر» لأرنست همنجواي في ذاكرتي منذ أيام المدرسة الثانوية للسبب الذي سآتي على ذكره الآن، فقد كان الناقد البحريني المعروف أحمد المناعي، أطال الله في عمره ومتّعه بالصحة، أستاذنا في مادة اللغة العربية. أنا وزملاء آخرون لي ممن أصبحنا كُتّاباً ممتنون لهذا الأستاذ الجليل الذي أخذ بيدنا، حين لمس فينا ما اعتقده قابلية للكتابة، وأنا شخصياً أذكر بالكثير من الاعتزاز أني أعطيته، يومها، مقالاً، أو محاولة في المقال، لإبداء الرأي فيه، فإذا به يقول لي بعد يومين أو ثلاثة: إن المقال سينشر في العدد القادم من مجلة «صدى الأسبوع»، وهذا ما كان بالفعل، ليضع رجلي على الطريق الذي ما زلت أسير عليه.
طلب الأستاذ المناعي من الفصل كله أن يقرأ «العجوز والبحر»، وحوَّل حصة التعبير إلى ما يشبه المختبر لمناقشتها، وأذكر أنه قرأ ورقة نقدية أعدّها هو شخصياً حولها.
سنكبر ونعلم أن «العجوز والبحر» قبل أن تصبح بالشكل الذي قرأناه، كانت ظهرت كمقطع ضمن مقالة بعنوان «على المياه الزرقاء» نشرها همنجواي في العام 1936 في مجلة «اسكواير»، وحين قرأها رئيس تحرير المجلة قال إنها تصلح لأن تكون قصة قصيرة في عشر صفحات أو اثنتي عشرة صفحة.
في عام 1950 عاد همنجواي لكتابة «العجوز والبحر» لكن بصمت وتكتم. لم يخبر أحداً بالأمر حتى ماري زوجته، في حينه، مع أنه اعتاد أن يطلعها على مشاريعه، فهي كانت ذات خبرة صحفية مثله، لكنها كانت تشعر أنه يعمل على مشروع جديد، لم يكن هو نفسه حدّد كيف سيكون: رواية أم قصة.
في العادة لم يكن بيته في العاصمة الكوبية هافانا، حيث كتب الرواية، يخلو من ضيوف. وفي إحدى الليالي نهض من مائدة الطعام بشكل مفاجئ، وأحضر المسودات وشرع في القراءة بصوت عالٍ. كانت الصفحتان أو الثلاث التي قرأها عبارة عن حوار بين صياد عجوز وصبي. وفجأة سأل مقاطعاً: أهذا صحيح؟ أيتحدث الناس هكذا؟
لعله كان يستحضر قولاً هو بمثابة نصيحة أسدّتها له صديقته الشاعرة الأمريكية جيرترود شتاين التي تعرّف إليها في باريس حيث تقيم رافضة العودة لأمريكا. كانت شتاين تزوره وتقرأ ما يكتبه، وتصرّح بأن كتابات رويارد كبلنج أفضل من كتاباته بكثير.
لم ترق أولى صفحات «العجوز والبحر» لها، ولم تعرها اهتماماً، وعلّقت قائلة: إنك صحفي جيد. إنك تصف وهذا عمل الصحفي ولكنك لا تصف بصورة جيدة، أما الكاتب فإن عليه ألا يصف أبداً، ولما سألها: «إذن ماذا على الكاتب أن يعمل»، أجابته: «يدع الناس يعيشون، يحيون حياتهم، لا يقول عنهم شيئاً، بل يدعهم هم وحدهم يتكلمون».
صديق آخر قال له: اترك عنك الألفاظ المُدوية، وحاول أن تصف الأشياء ببساطة أشدّ.

madanbahrain@gmail.com