لا.. ليست فوضى

19-04-2018
جميل مطر

منذ فترة غير قصيرة ونحن نتكلم عن أن العالم في حالة فوضى. أنا شخصياً استخدمت كلمة الفوضى في أكثر من مقال كتبته ومحاضرة ألقيتها. لم أنتبه ولا آخرون انتبهوا إلى أن الفوضى حالة مختلفة عن الحالة التي نستخدم كلمة فوضى في وصفها. سلكنا الطريق السهل بدلاً من أن ننشغل ونشغل مساعدينا وزملاءنا في مهمة وضع التوصيف المناسب للحالة الدولية الراهنة. تصورنا أن انفراط أو التهديد بانفراط دولتين أو ثلاث دول من مجموع ما يقترب من مائتي دولة، وأن الظهور المفاجئ لشخصية متقلبة على رأس أكبر وأقوى دولة في العالم وانعكاس هذا الظهور على سياستها الخارجية والسياسة الدولية بشكل عام، وأن أغلبية في شعوب بريطانيا قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأن انحسار اهتمام الدول والشعوب العربية بجامعة الدول العربية ومنظماتها، هذه المتغيرات وغيرها كثير تصورناها علامات كافية على أن النظام الدولي والنظام الإقليمي العربي في حالة فوضى.
أظن أننا أخطأنا أو ربما بالغنا في تعظيم ظواهر معينة طارئة على حساب عناصر كثيرة لم تصل إليها رياح التغيير أو التفكيك. نسينا أو تجاهلنا حقيقة أن مجرد استمرار وثبات ظاهرة الدولة كوحدة الحساب والتحليل والأساس في القانون الدولي والعلاقات بين الدول أقوى دليل على أن العالم لم ينزلق إلى الفوضى، بل إنه حين تكون أغلبية الدول قائمة وشرعيتها غير مشكوك فيها والقانون مطبق فيها يكون العالم لا يزال بعيداً عن الفوضى. من ناحية ثانية لا يستقيم افتراضاً أو واقعاً أن تكون مؤسسات النظام الدولي قائمة وتعمل وإن على مستوى من الأداء المنحدر ثم نعلن، ونتصرف ونحلل على أساس، أن النظام الدولي تردى إلى الفوضى الشاملة أو أن مصيراً مماثلاً انتهى إليه النظام الإقليمي العربي أو قد ينتهي إليه النظام الأوروبي. من ناحية ثالثة، لا يكفي أن تتجاوز دول حدود احترامها لحقوق الإنسان أو أن تلجأ حكومة أو حتى عشر حكومات إلى استخدام أساليب متوحشة لتعذيب المواطنين أو إبادة آلاف منهم حرقاً، أو أن تعتدي دولة أو عدد من الدول على دول في الجوار أو في خارج الجوار وتخترق مختلف فضاءاتها دون قرار مسبق من مجلس الأمن، لا يكفي عمل من هذه الأعمال أو كلها في وقت واحد لنعلن حالة الفوضى في النظام الدولي أو في نظام إقليمي. إذ في مقابل هذه الأعمال الخارجة عن القانون الدولي توجد حالات أوفر عدداً من أعمال تحترم قواعد القانون الدولي. نحن بالفعل شهود على تجارة تتبادلها الدول بمعدلات وقيم أعلى من كل مراحل الاستقرار الدولي. الأمن مستتب في البحار والمحيطات، حتى القرصنة حول مداخل البحر الأحمر تراجعت. نحن أيضاً، بدرجة أو أخرى، شهود على أن اتفاقات دولية عتيقة وجديدة وعديدة ما زالت تحظى باحترام موقعيها. لم نشهد سباقات بين عناصر أو ميليشيات انتصرت وهيمنت في كل أنحاء العالم وراحت تمزق المعاهدات الدولية وتمزق دساتير الدول وتدمر مؤسساتها. رأينا إرهابيين يقتلون المارة والمتنزهين في شوارع لندن ونيس وباريس ومدن هنا وهناك، وأعمالاً مرفوضة ومتناثرة واستثنائية في نظام دولي ما زال يعمل ويؤدي معظم وظائفه وإن بانضباط وكفاءة أقل مما كنا نعهده في عقود سابقة.
من ناحية أخرى، لا نستطيع إنكار حقيقة أن مساحات السلم في فضاء التفاعلات الخارجية ما زالت شاسعة، وإن مساحات الحرب والقتل والتدمير وإن اتسعت لا تزال أصغر كثيراً من مساحات السلم.
إذا كانت الدولة لا تزال وحدة الحساب في النظام الدولي الراهن، وإذا كانت المواثيق والاتفاقات الدولية قاعدة العمل والالتزام فيه، وإذا كانت مؤسسات النظام تعمل حتى وإن بأداء ضعيف ومتهاوٍ، وإذا كانت منظومات القيم والأخلاق لا تزال أحد المراجع الأساسية للعمل السياسي والتعاون بين البشر، أقول إذا توافرت هذه الشروط وإن بدرجة أقل من المأمول فالعالم في رأيي لم يزل بعيداً عن حال الفوضى التي نستسهل استخدامها ونذهب أحياناً إلى حد تصور أننا غاطسون فيها. البديل الذي أطرحه في توصيف الحال التي يعيش فيها كوكبنا هو حال الارتباك. هذا الارتباك الذي يميز العديد من السلوكيات السياسية والاجتماعية الراهنة هو نتيجة حتمية لتشابكات المرحلة الانتقالية التي يمر فيها العالم، ونتيجة ضرورية لتفاعلات مرحلة العولمة الأخيرة التي هزت دنيانا إلى الأعماق. كلاهما: الانتقال من نظام دولي وأخلاقي ثنائي القطبية السياسية والأيديولوجية إلى شيء آخر يرفض أن يتبلور أو يعلن عن نفسه، والعولمة وما صاحبها من ثورة تكنولوجية وفي الاتصالات والمواصلات وحركة الشعوب، كلاهما معاً أطلقا حال ارتباك هائلة وتردد غير مألوف. إن كل ما عايشناه منذ نهاية عقد السبعينات ونعايشه ونطلق عليه جزافاً صفة الفوضى هو ليس أكثر من ارتباك اتسمت به كل المراحل الانتقالية. انتهت هذه المرحلة كما هو معروف بحرب عالمية. ثم هناك المرحلة الصعبة التي مرت فيها أمريكا اللاتينية خلال انتقالها من نظام إقليمي للاستبداد إلى نظام آخر لسيادة القانون. هناك أيضاً مرحلة الانتقال العنيف في النظام الإقليمي العربي من حال النظام المنغلق ثقافياً وقومياً إلى حال لم تتضح بعد معالمها، وإن أشارت مؤشرات إلى أن الارتباك السائد حالياً في نظامنا الإقليمي العربي والتردد الغريب في إصلاحه قد يفرزان في النهاية انفتاحاً أوسع على جبهات عداء وعنف شديدين وأنظمة حكم أشد قمعاً واستبداداً، قد يفرزان أيضاً فوضى شاملة في التفاعلات الإقليمية.
طريقنا إلى الاستقرار يبدأ بالتخلص من الارتباك وبإقصاء التردد.