“تذكرت شيئا قد مضى لسبيله ومن عادة المحزون أن يتذكرا” محبرة وقلم

18-04-2018

مشعل عثمان السعيد

المحزون ايها السادة هو من اطبق الهم والغم على خناقه كحال ابي فراس الحمداني الذي قال وهو في اسر الروم:
اتحمل محزون الفؤاد قوادم
على غصن ثاني المسافة عال
لا يستطيع كائنا من كان منع نفسه من الحزن فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد موت ابنه ابراهيم: «ان العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول الا ما يرضي ربنا وانا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون»، والحقيقة ان اشد انواع الحزن الخبر المحزن المفاجئ.
والانسان مخلوق ضعيف، والدنيا لا تخلو من المصائب، اما صاحب هذا البيت فقد اثار حزنه وشجنه وتذكره شيئا مضى لسبيله، عاده تذكر ما مضى لذلك قال:
تذكرت شيئا قد مضى لسبيله
ومن عادة المحزون ان يتذكر
صاحب هذا البيت: النابغة الجعدي، فما الذي تذكره؟ لقد بين هذا الشيء في بيته الثاني، فهو يقول:
نداماي عند المنذر ابن محرق
ارى اليوم منهم ظاهر الارض مقفرا
بات واضحا سبب حزن النابغة الجعدي، تذكره رفيقيه عند المنذر بن محرق ملك العرب قبل الاسلام، وهو والد النعمان وهو المنذر بن المنذر «578 – 582م»، ثم يصف من تذكرهم من اصحابه فيقول:
كهول وفتيان كأن وجوههم
دنانير مما شيف في ارض قيصرا
وصف وجوه اصحابه بالدنانير القيصرية كناية لجمالهم دعونا نتعرف على هذا الشاعر الذي ذكر انه عشان 180 سنة على اقل تقدير «طبقات الشعراء»، هو ابو ليلى، عبدالله بن قيس بن عدس بن جعدة بن كعب بن ربيعة العامري، يعد من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لانه وفد عليه ورأه ومدحه، كان قبل البعثة موحدا يعترف بوجود الله تعالى، ومما يدل على ذلك قوله
الحمد لله لا شريك له
من لم يقلها نفسه ظلما
الخالق البارئ المصور في
الارحام ماء حتى يصير دما
المولج الليل في النهار
وفي الليل نهار يفرج الظلما
الخافض الرافع السماء على
الارض ولم يبن تحتها دعما
وهذه الابيات تدل على توحيده وايمانه بالبعث والجنة والنار، وقد نسب هذا الاشعر لامية بن ابي الصلت الثقفي، الا ان حماد الراوية صححه، وكذلك محمد بن سلام ويونس بن حبيب والاخفض وهم كبار علماء الادب واللغة اكدوا انها للنابغة الجعدي.
وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وانشده قوله:
وإنا لقوم ما نعود خيلنا
اذا ما التقينا ان تحيد وتنفرا
وننكر يوم الطعن الوان خيلنا
من الطعن حتى نحسب الجون اشقرا
وليس بمعروف لنا ان نرددها
صحاحا ولا مستنكرا ان تعقرا
علونا على طر العباد تكرما
وانا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما استمع الى البيت الاخير «الى اين يا ابا ليلى» فقال: الى الجنة يا رسول الله، قال: «نعم ان شاء الله تعالى» ثم قال: ولا خير في حلم اذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه ان يكدر
ولا خير في جهل اذا لم يكن له
حليم اذا ما اورد الامر اصدرا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفضض الله فاك» وكان من احسن الناس ثغرا، فما ان تسقط له سن حتى تنبت اخرى، وفي رواية «عبدالله بن جراد» انه قال نظرت اليه كأن فاه البرد المنهل، يتلألأ ويبرق وما قطت له سن، بفضل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يفضض الله فاك»، وعاش طويلا بفضل هذه الدعوة المباركة فلما بلغ من عمره مائة واثنتي عشرة سنة قال:
اتيت مائة لعام ولدت فيه
وعشرة بعد ذلك واثنتان
وقد ابقت صروف الدهر مني
كما ابقت من الذكر اليماني
ألا زعمت بنو سعد بأني
وما كذبوا كبير السن فاني
وكان النابغة الجعدي حسن الاسلام وقد وفد بعدذلك على عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب، وقد انشد عمر بن الخطاب قوله:
لقيت اناس فأفنيتهم
وأفنيت بعد اناس اناسا
ثلاثة أهلين افنيتهم
وكان الاله هو المستآسا
فقال له عمر: كم لبثت مع كل اهل؟ قال: ستين سنة، وعندما بويع عبدالله بن الزبير من العوام، خليفة على الحجاز واليمن والعراق وخراسان دخل عليه نابغة بني جعده في المسجد الحرام، وقد بلغ به الجهد فأنشده:
حكيت لنا الصديق لما وليتنا
وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا
فعاد صباحا حالك الليل مظلم
اتاك ابو ليلى تجوب به الدجي
دجى الليل جواب الفلاة عرمرم
لتجبر منه جانبا دعدعت به
صروف الليالي والزمان المصمصم
فقال له ابن الزبير: هو نعليك ابا ليلى، فان الشعر اهون وسائلك عندنا، اما صفوة مالنا، فان بني اشد شغلتنا عنك، واما عفولة فلآل الزبير، ولكن لك في مال الله حقان، حق لرؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لشركاتك اهل الالام في فيئهم ثم ادخله دار النعم، فاعطاه قلائص سبعا وفرسا وخيلا وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا، فجعل النابعة يأكل الحب صرفا، فقال ابن الزبير: ويح ابي ليلى، لقد بلغ منه الجهد، فقال: اشهد اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما وليت قريش فعدلت واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فراط القادمين الا» وذكر كلمة معناها انهم تحت النبيين بدرجة في الجنة، ومن شعر النابعة الجعدي السائر قوله
فتى كملت خيراته غير انه
جواد فلايبقى من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه
على ان فيه ما يسوء الاعاديا
توفي النابعة الجعدي في اصفهان، ذكر ذلك ابو الشيخم في طبقات الاصبهانيين، وابو نعيم في تاريخ اصبهان، وهو في الاصل من اهل الفلج جنوب اقليم نجد، وليس له تاريخ ميلاد محدد لطول عمره، الا ان وفاته بحدود 670م.

اكتفى بهذا القدر

جف القلم ونشفت المحبرة، في أمان الله،،،

كاتب كويتي
Mshal.Alsaed@gmail.com