المجد للآباء !

18-04-2018

عن أولئك الذين يخوضون عباب النهار ليعودوا مساءً بفتات بالكاد يسد جوع فلذات أكبادهم.. لأولئك الذين يواجهون كل يوم العالم الشرس ليغنموا فرحة يدخرونها للمساء، وكأن كل تلك الجراح الموغلة في أنحاء أجسادهم المنهكة ليست إلا جزءاً من ملامحهم المعتادة!!

سلام على آباء لا يخبرون ما بهم.. ولا يشتكون ما يؤلمهم..

سلام عليهم حينما يهزمون صروف الحياة بصمتهم؛ وحين يكتفون بزفرات تفي عن آلاف الكلمات!!

سلام عليهم بحجم وعودهم وبحجم فداحة استحقاقها.. بحجم خوفهم من طعنة لا يدرون من أين ستأتيهم؟ بحجم أوجاع مخبأة ستنكأ يوماً ما كل العبرات وتبثها حرائق لا تنطفئ.. بحجم ترقبهم لصفعة لا يدرون على أي خد ستأتيهم.. وكم خد سيديرونه لها؟

من يخبر الصغار أن الحياة أصعب من منافساتهم الصغيرة.. وأن الآباء يقذفون بأنفسهم مع كل فجر يوم جديد وسط غابة من الوحوش التي تتسابق على نهشهم.. وأن انحناءات ظهورهم ما هي إلا هموم أثقلت كواهلهم..

كم من أب يدعي الشجاعة بينما تهزمه نظرات أطفاله، يرقبون وفاءه بوعوده لهم؟

سلام على ذلك الأب الذي أخذ يمسد شعر ابنته حتى تنام على حلم وعده لها بكراسة مذهبة، تشبه كراسة صديقاتها.. ثم راح يطوي الشوارع بحثاً عن قرطاسية تقبل ما تبقى معه من ريالات مقابل الكراسة المذهبة التي تشبه كراسة صديقاتها!!

وجدته في نهاية الخمسينات حائراً على بعد أمتار من محطة وقود.. يسأله المارة إن كان يريد مساعدة، لكنه يصر على أن كل شيء على ما يرام، وأن سيارته المتهالكة في أحسن حال.. مستعيناً بطرفي شماغه ليواري حاجته.

تجاهلت تهربه، وركنت سيارتي أمام سيارته.. اقتربت منه.. مددت يدي مصافحاً لكنه أشاح عني خوفاً من فضح ضعفه، حاول أن يتجاهل إلحاحي، لكن دفعه سباقه مع منتصف الليل وخذلان سيارته له.. أخذته بيدي فأخذني بهمهمات متقطعة، كأنها زفرات طفق يدفعها.. ما بك!؟ قال: لا شيء؟ ثم شد طرفي شماغه، وكأنه فعلاً لا شيء..

أحسست أنها حاجة يقمعها كبرياء أب، تلاحقه وعوده لأطفاله!!

قاومت تجاهله، وكررت السؤال، واكتفى بالإشارة إلى مؤشر خزان الوقود الفارغ!! قلت أساعدك، فطلب إيصاله إلى أقرب قرطاسية!! أخذته إليها مسرعاً، وبالكاد وصل قبل إغلاقها.. دقائق ثم خرج يساعدهم لفرط انتصاره في إغلاق أبواب القرطاسية، مزهواً يضم إلى صدره «كراسة ذهبية»!!

يا لها من فرحة وقد وفى بوعده؛ واستحال إلى رجل آخر لا يستطيع أن يواري ملامح انتصاره؛ انتبه لملابسي، وسألني معتذراً أين كنت ذاهباً بملابس النوم؟ قلت له بعد أن تنبهت.. نسيت أن ابنتي أيضاً كانت تريد «كراسة ذهبية»!!.