ديستوفسكي في مرآة زوجته

18-04-2018
د. حسن مدن

كتبت آنا جريجوريفنا زوجة الأديب الروسي الكبير فيدور ديستوفسكي مذكراتها عنه، أو مذكراته معه، بعد وفاته. ونحن نقرأ بعض التفاصيل الدقيقة، المحرجة، يخطر في بالنا سؤال: أكانت الزوجة ستملك الجرأة في نشر تلك الذكريات لو كان الزوج حياً؟ الأرجح أن ذلك سيكون صعباً، إن لم يكن محالاً.
من الظلم طبعاً للمذكرات وكاتبتها ولديستوفسكي نفسه أن نحصر هذه المذكرات الشائقة في تلك التفاصيل التي وصفناها ب «المحرجة»، فالكتاب تطواف واسع في الحياة الثرية لواحد من أكبر المبدعين لا في روسيا وحدها وإنما في تاريخ الأدب العالمي كله الذي ستظل الأجيال تنهل المتعة والحكمة من رواياته الخالدات: «الأبله»، «الجريمة والعقاب»، «الإخوة كارامازوف» وغيرها، وتعريف بالحياة القاسية، المُرة في الكثير من محطاتها، التي عاشها هذا المبدع، وتحملت الزوجة ورفيقة الدرب، صاحبة المذكرات، الكثير من متاعبها.
كما تُعرفنا المذكرات على الكثير من الملابسات والأحداث التي أحاطت بكتابته أعماله الروائية، من خلالها نتعرف على روسيا ذلك الزمن، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكيف تفاعل معها هذا المبدع ذو الشخصية المركبة، فهو المرهف عاطفة وحباً في علاقته مع زوجته وعائلته، وهو المريض المصاب بالصرع، الذي يقال إنه ألهمه الكثير في كتابة روايته، وفي التحليل النفسي للشخصيات التي بناها في هذه الروايات، وهو إلى ذلك المقامر المتهور ما جرّ عليه الكثير من الديون التي عانى، هو وعائلته، وطأتها.
من الأمور التي اقتربت منها الزوجة في المذكرات غيرة ديستوفسكي الشديدة عليها، التي تراها مبالغاً فيها، وغير مبررة، حيث كان لا يتمالك نفسه عن إظهار هذه الغيرة حتى وسط الجموع في المناسبات الأدبية والاجتماعية ما كان يوقعها في مواقف حرجة.
ومن ذلك ما روته آنا جريجورفنا عما حدث في إحدى الأمسيات الأدبية التي وصلها الزوجان متأخرين، فما إن دخلا حتى راح الجميع يرحبون بديستوفسكي بحرارة، فيما أخذ الرجال يقبلون يدي زوجته جرياً على تقليد مألوف في الصالونات النخبوية، ما أثار غضب الزوج الذي سلّم على الجميع بجفاف وانزوى جانباً ملتزماً الصمت.
أدركت الزوجة التي تعرف زوجها جيداً السبب، فاكتفت بمبادلة الحاضرين جملاً سريعة وجلست إلى جانبه بغية تنقية الأجواء وتهدئة غضبه، لكنه لم يبادلها الحديث، قبل أن يقول بنزق: «اذهبي إليه»، قالت الزوجة بحيرة، وهي تضحك: «أذهب لمَن»؟ فرّد عليها: للذي قبّل يدك، ولأن كل الرجال قاموا بتقبيل يدها وهي تدخل معه القاعة، فإنها لم تعرف مَن بالضبط منهم قصده الزوج.
ورغم أن المحادثة الحادة بينهما كانت بصوت خافت، إلا أن الجالسين بالقرب منهما سمعوا ما دار بين الزوجين، ولتفادي المزيد من الحرج، قالت الزوجة وهي تهب للانصراف نحو زاوية منعزلة: «يبدو أنك لست على ما يرام».

madanbahrain@gmail.com