صداع في رأس أوروبا

18-03-2018
عبدالله السناوي

كأن أجواء الحرب الباردة عادت. فجأة اشتعلت أزمة حادة بين لندن وموسكو على خلفية تسميم العميل المزدوج الروسي «سيرجي سكريبال» وابنته بغاز أعصاب مخصص للأعمال العسكرية.
لندن أجرت اتصالات غير معلنة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، تقرر بمقتضاها تصعيد الأزمة إلى مستويات غير مسبوقة منذ نهاية تلك الحرب قبل نحو ثلاثة عقود.
أُعلنت عقوبات اقتصادية وجُمدت الاتصالات الثنائية وطُرد دبلوماسيون وأُلغيت مشاركة أي وفود رسمية بريطانية في كأس العالم لكرة القدم، الذي تستضيف موسكو منافساته.
يستلفت الانتباه أولاً أن التصعيد بالعقوبات استبق استبيان كامل ظروف وملابسات الحادث، أو التوصل إلى أدلة تثبت تورط الاستخبارات الروسية فيه. وهناك فارق بين الاستنتاج والإثبات.
كل ما لدى جهات التحقيق البريطانية ترجيحات بالنظر إلى طبيعة الدور الذي لعبه العميل المزدوج والمستوى التقني العالي للغاز المستخدم في الحادث.
يستلفت الانتباه ثانياً أن مستوى التعبئة داخل الحلفاء الغربيين ضد «العدو الروسي المشترك» يكاد يقارب ما كان جارياً أثناء سنوات الحرب الباردة، رغم أن مقوماتها الأيديولوجية والاستراتيجية والعسكرية تقوضت كلياً بعد سقوط سور برلين عام (١٩٨٩) وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق والمنظومة الاشتراكية بما فيها حلف «وارسو»، الذي كان يواجه حلف «الناتو».
كما أن مقاطعة الوفود الرسمية البريطانية للمونديال تكاد تستوحي بصورة ما، مقاطعة الدول الغربية كلها لدورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها موسكو (١٩٨٠) على خلفية تدخلها العسكري في أفغانستان.
في ذلك الوقت دخلت الاستخبارات الأمريكية على الخط الأفغاني لاصطياد الاتحاد السوفييتي في المستنقع الذي دخل فيه، عبأت قيادات دول حليفة في المنطقة وجندت «مجاهدين» ودربت على السلاح ومولت باسم «الدفاع عن الإسلام».
هكذا ولدت جماعات العنف والإرهاب ذات الطابع العالمي فوق جبال أفغانستان، وأخطرها «القاعدة» التي رفعت السلاح ضد حلفائها السابقين وخرجت من عباءتها تنظيمات أكثر عنفاً مثل «داعش» في سوريا والعراق وليبيا واليمن وسيناء.
يستلفت الانتباه ثالثاً قدر التوظيف السياسي للحادث، الذي لا يمكن غض الطرف عنه بالنسبة لأي دولة تحترم حرمة أراضيها.
باليقين هناك ضيق غربي معلن ومكتوم من ارتفاع منسوب الدور الروسي في الشرق الأوسط، خاصة وبالتحديد في الأزمة السورية.
لا يصعب استنتاج أن بين أهداف ذلك التصعيد غير المسبوق إحراج الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في دعمه المفتوح للرئيس السوري «بشار الأسد»، فيما هو موجه إليه من اتهامات غربية باستخدام «الأسلحة الكيماوية» ضد الجماعات المسلحة التي تناهضه.
يستلفت الانتباه رابعاً أن التوظيف السياسي للحادث يدخل في عمق الأزمة الداخلية البريطانية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي وصعوبة المفاوضات التي أعقبته.
هناك قطاع كبير في الرأي العام البريطاني صوت لصالح البقاء ويرى أن التداعيات أثبتت صحة ما ارتآه. وهناك قطاع كبير آخر تستبد به نعرة قومية متطرفة يطلب التصعيد مع العدو التقليدي القديم تأكيداً على صحة ما ذهب إليه من طلاق مع الاتحاد الأوروبي.
روسيا ليست الاتحاد السوفييتي، لكنها تمثل لذلك النوع من التفكير عدواً بذات قدر الاتحاد الأوروبي، فكلاهما ضد المصالح والهوية البريطانية. وجه التناقض هنا أن النزعة اليمينية المتطرفة التي تعادي أوروبا تطلب غطاءها السياسي في الأزمة مع روسيا.
التوظيف السياسي يمتد لمحاولة إعادة بناء صورة رئيسة الحكومة «تريزا ماي» باعتبارها «سيدة حديدية» جديدة ك«مارجريت تاتشر» دون أن يكون بوسع معارضيها العماليين أن يشككوا في دوافعها أمام رأي عام غاضب ومستفز مما تعرض له من إهانة الحادث.
ويستلفت الانتباه خامساً أن الأزمة تدخل في سياق عام من صداع أوروبي مزمن يتلازم فيه صعود اليمين المتطرف باسم التفوق العرقي وتغول جماعات الإرهاب باسم الإسلام.
كانت الانتخابات الإيطالية جرس إنذار جديد بصعود اليمين المتطرف على نحو لا يمكن إغفال تداعياته على توجهات الائتلاف الحكومي، أو بنية التشريعات، ومستقبل وجودها في الاتحاد الأوروبي.
وقد مثلت الانتخابات الألمانية، حيث قيادة الاتحاد الأوروبي، جرس إنذار أكثر دوياً، إذ تمكن حزب «البديل» اليميني المتطرف من دخول البرلمان لأول مرة ب(٩٢) مقعداً.
وكان الثمن السياسي باهظاً، فقد اضطرت لتقديم تنازلات جوهرية في قضايا اللاجئين والتزمت قيوداً على استقبالهم.
باتساع أوروبا، أجراس الإنذار تدوي هنا وهناك، فكراهية الأجانب تلازم صعود اليمين المتطرف، وطلب تقليل الحقوق الاجتماعية والصحية والتعليمية للاجئين يرادف طلب الخروج من الاتحاد الأوروبي باستفتاءات تشبه ما جري في لندن.
هذا ما يحدث الآن في فرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا والمجر والسويد وبولندا ودول أوروبية أخرى بنفس الخطاب ودرجة الإزعاج السياسي.
وكلما ارتفعت أوزان اليمين المتطرف في صنع القرار الأوروبي فإن القادم أسوأ على الإقليم المنكوب.
بأي قراءة تتسع نظرتها لكامل خلفيات وأبعاد الأزمة المتفاقمة بين لندن وموسكو، فإنها لا يمكن أن تنعزل عن ذلك الصداع في رأس أوروبا، كما أنها ليست بعيدة عما يحدث هنا في الإقليم.