كلام في الأمن القومي

25-02-2018
عبد الله السناوي

الأمن القومي لأي بلد قضية على درجة عالية من الحساسية والخطورة. فهو يدخل في صميم وجوده وسلامته ومصالحه العليا، وهو لا يعرف الأهواء والتقلبات، بالنظر إلى التهديدات المحتملة والمخاطر الممكنة.
نظريات الأمن القومي ليست اختراعاً، كما أنها ليست طلاسم وألغازاً يقف على أسرارها حراس وكهان. للخرائط كلمتها الحاسمة في صياغة تلك النظريات، بالقدر ذاته من تراكمات التاريخ وخبرته.
إذا احتُرمت الحقائق تصون الدول أمنها القومي، وإذا استُبيحت فإن الانكشاف الاستراتيجي يبلغ مداه، وفواتيره باهظة.
وفق الدكتور جمال حمدان، صاحب «عبقرية المكان»، فإن مصر إذا خرجت إلى محيطها تقوى وتنهض، وإذا ما انكفأت داخل حدودها ضعفت وانهارت. هذه نظرية محكمة في الأمن القومي أثبتت صحتها.
بالحقائق الجغرافية والتاريخية، هناك قضيتان محوريتان من حيث حجم الأخطار والتهديدات.
الأولى: سلامة نهر النيل جنوباً، وهذه مسألة وجودية تتعلق بشريان الحياة. تمثل التطورات الأخيرة في إثيوبيا إزعاجاً إضافياً، فإطاحة رئيس وزرائها هايلي ماريام ديسالين، بانقلاب داخل المؤسسة الحاكمة، ينذر بتعقيدات مستجدة، فالحكام الجدد أمام الاضطرابات القبلية والاجتماعية، سيميلون إلى مزيد من التشدد في المفاوضات والاستمرار في استهلاك الوقت، حتى تجد مصر نفسها أمام سد النهضة، وقد بدأ تشغيله.
والثانية: حماية الحدود شرقاً، حيث «إسرائيل».
طوال التاريخ المصري تبدت الأخطار شرقاً أكثر من أي منطقة حدودية أخرى، مثل ليبيا غرباً والسودان جنوباً. وقد أُنشئت «إسرائيل» لأسباب استراتيجية، استهدفت عزل مصر عن المشرق العربي، كانت تلك الفكرة المؤسسة ل«وعد بلفور»، لا الأساطير اليهودية عن أرض الميعاد. بمعنى آخر، وظفت تلك الأساطير لمقتضى المصالح الاستراتيجية في تحجيم الدور المصري وعزله عن محيطه.
لابد أن يطرح بكل وضوح سؤال اللحظة: إلى أي حد تضرب صفقة الغاز مع «إسرائيل» في عمق الأمن القومي؟ وأن تكون الإجابة عليه بلا التباس كلام، أو تبرير دعاية.
القضية ليست المنافع الاقتصادية المفترضة، ولا في التفاصيل الفنية. القرار من أوله لآخره سياسي، وهو قرار دولة لا شركة خاصة عقدت اتفاقاً مع «إسرائيل» لاستيراد غاز بقيمة 15 مليار دولار على مدى 10 سنوات.
في لحظة الإعلان عن الصفقة أعلن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، أنه «يوم تاريخي» و«يوم عيد».
كم هدف أحرزته «إسرائيل» بذلك الخرق الكبير في مستويات رفض التطبيع معها؟
هنا مكمن الخطر، خاصة أن صفقة الغاز ترافق التصعيد «الإسرائيلي» في قضية القدس، على خلفية قرار ترامب بنقل سفارة بلاده إليها.
بأية اعتبارات أمن قومي يمكن تسويغ مثل هذه الصفقة؟
الأمن القومي موضوع توافق واسع له إطار وحدود وقواعد. إذا لم يكن هناك هذا التوافق، يفقد البلد بوصلته التي تحدد مواطن الخطر، فلا نعرف أين نقف؟..
بالتعريف، فإن الأمن القومي مسألة تحصين للبلد، تمنع الاختراقات في بنيته، وهذه مهمة أجهزة المعلومات والاستخبارات التي أنشئت من أجلها، كما أن نظرياته تصوغ العقيدة القتالية، أين مصادر التهديد؟.. ومن العدو؟
لم يكن هناك شك على مدى سبعين سنة، منذ تأسيس الدولة العبرية، في تعريف مصدر الخطر الرئيسي. وبالتعريف، فإنه يدخل في المصالح الاستراتيجية العليا، وهذه مهمة الدبلوماسية.
أين دوائر الحركة الرئيسية؟.. وأين الأولويات في إدارة الملفات الخارجية؟
كانت أول محاولة لتحديد دوائر الحركة الدبلوماسية في «فلسفة الثورة» عام 1953، وشملت على سبيل الحصر، الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية؛ ذلك التحديد يتصل بالأمن القومي مباشرة.
يستلفت الانتباه في النص الدستوري، أساس الشرعية، أنه اعتمد في مادته الأولى ذات دوائر الحركة: «الشعب المصري جزء من الأمة العربية، يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تنتمي إلى القارة الإفريقية وتعتز بامتدادها الآسيوي».
ويستلفت الانتباه في نفس المادة، تأكيدها أن مصر «دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا يتنازل عن شيء منها، نظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون».
النص يؤكد ثوابت الوطنية المصرية في وحدة أراضيها، وعدم التنازل عن شيء منها، وهذه مسألة أمن قومي خرقها يقوّضه.
وفق النظرة الواسعة، فإن عزل الأمن القومي في أطر ضيقة، يسحب منه قدرته على تحصين مجتمعه. لا تحصين بالأمن وحده، والحريات العامة قضية أمن قومي، فلا توافق ممكناً تحت الترهيب.
أجواء الخوف تضرب في الأمن القومي، بقدر إنكار الحقائق الأساسية نفسه، وأهمها أن دولة الاحتلال «الإسرائيلي»؛ العدو الرئيسي.
روي ذات مرة نقلاً عن الرئيس العراقي في ذلك الوقت جلال طالباني، نص حوار ضمه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قال طالباني: «إننا لا نضع البيض في سلة واحدة».
علق بوتين: «إنني أضع البيض في سلة واحدة، لكني لا أوزع بيضاً».
رأى هيكل في العبارة الأخيرة نظرية رائعة في الأمن القومي، قبل أن يردف: «إننا في العالم العربي نصنع من البيض عجة، حتى صارت أحوالنا عجة».