هـويـة الجـلاد

20-02-2018

العرب لا يهتمون بعدد الضحايا، بــل بهوية الجلاد.. لا يغضبون لعدد القتلى، بـل لـقـتلهم على يد «غريب» لا ينتمي للقبيلة والمذهب.. لا نهتم كثيراً حين يتقاتل الأعراب فيما بينهم، ولكننا نقلب الدنيا حين يفعل ذلك «أغراب» من خارج مجموعتنا الدينية والعرقية..

حتى في عالمنا الإسلامي تقوم التظاهرات حين يوقع «الكفار» ضحية جديدة، ولكننا لا نسمع عن تظاهرات مماثلة حين تقتل الميليشيات الطائفية (التي ننتمي إليها) أضعاف ذلك العدد.. لم ينتفض معظمنا حين قامت داعش بقتل المدنيين السنة في الموصل وتلعفر؛ فالمهم ألا تفعل ذلك الميليشيات الشيعية.. سبق وكتب مقالاً بعنوان «كم قتل العرب بأيديهم» أثبت فيه بالإحصائيات أن الأميركان في العراق، والفرنسيين في سورية، والإسرائيليين في فلسطين، والبريطانيين في اليمن، لم يقتلوا من أهالينا أكثر ممن قتلنا نحن بأيدينا..

كل هذا لأن نعيش داخل ثقافة تستهين بحياة الإنسان، وتمجد فكرة الانتصار بأي ثمن.. ثقافة لا تهتم بعدد الضحايا، بــل بهوية المنتصر وكيف سبقنا في إسقاط هذا العدد الرائع من الضحايا..

لا أنكر أن جزءاً من المشكلة يكمن في طبيعتنا البشرية.. فمفهومنا لهوية الجلاد يتطلب أن يكون بشري الشكل أولاً، وموقفنا منه ثانياً (هل هو غريب من أعدائنا، أم حبيب من بني جلدتنا).. لا يخطر على بالنا مثلاً أن البعوضة قتلت أضعاف ما قتله هتلر وهولاكو وجنكيز خان وستالين مجتمعين.. لا يخطر ببالنا أن الفئران كانت سبب الطاعون الذي قتل ثلث البشر في القرن الرابع عشر.. ورغم هذا العدد الهائل من الضحايا تبدو فكرة جعل البعوضة والفأر عدوتنا الأولى سخيفة (وربما مضحكة) بسبب طبيعتها غير البشرية وعدم اشتراكها معها في أي موقف فكري أو عقائدي!!

لم يجرؤ مؤرخ على تصنيف البعوضة أو القوارض كأعظم جلاد في التاريخ، ولكن حين ننظر للأمر (بحسب أرقام الضحايا) نكتشف أن المسببات «غير البشرية» تحتل دائماً المراكز الأولى في عداوتها للبشر - بما في ذلك الجهل والأمية وعدم الوعي..

ولهذا السبب أعتقد أن نشر الوعي الصحي والتعليمي والفكري، هـو أعظم انتصار يمكن أن يحققه أي شعب في أي معركة.. الوعي الفكري ينجينا من الإرهاب والتطرف، والوعي الصحي ينجينا من الأمراض والإعاقات، والوعي التعليمي من الفقـر وقلة الإمكانات..

الوعي (في أي مجال) يضمن لنا الانتصار بشكل مؤكد وأقل كلفة من حمل السلاح أو تفجير الأعداء أو إسقاط أطول عمارتين في نيويورك.. خلال الخمس مئة عام الماضية قتلت البعوضة 24 مليون إنسان في إفريقيا و36 مليوناً في آسيا، ولكنها انتهت فور وعي سكان بنما وسنغافورة بطرق مكافحتها ومنعها من التكاثر!

.. إذاً؛ حان الوقت لتغيير مفهومنا للطغاة والتركيز أولاً على (أرقام الضحايا) بصرف النظر عن هوية الجلاد.. حروبنا الحقيقية يجب أن تبدأ من وزارة الصحة والتعليم (وليس من وزارة الدفاع والداخلية) وتتجه مباشرة للعادات والتصرفات التي تقتل بصمت ملايين الناس.. فـالتدخين والسمنة والضغط والأطعمة السريعة والقيادة المتهورة جميعها (أعمال إبادة مؤجلة) لا نلقي لها بالاً.. مكافحة أول عشرة مسببات للوفاة في مجتمعنا (وفي مقدمتها حوادث السيارات التي تقتل من شبابنا أكثر من جيوش الدنيا مجتمعة) أولى وأهـم من خلافات جدلية لا تنتهي، وصراعات طائفية استهلكت جهودنا وسرقت حياتنا..

.. باختصار؛ أكبر انتصارات الإنسان لا تـتم من خلال الجيوش وخوض المعارك، بل من خلال تثقيف الإنسان وانتشاله من الجهل والفقر والموت في سن مبكرة..

وإن حسبتني مبالغاً في هذا الادعاء (فلا بأس) لأن من طبيعة البشر عدم الاهتمام بالضحايا أكثر من هوية الجلاد..