فائض التوصيف

20-02-2018
خيري منصور

ما جدوى أن تتراكم بالقرب من سرير المريض آلاف الوصفات الطبية إذا كانت ممنوعة من الصرف؟
وهل الإفراط في التوصيف والتشخيص يكفي للحيلولة دون تفاقم الداء؟
تخطر ببالنا مثل هذه الأسئلة ونحن نقرأ ما ينشر أو يبث عبر الفضائيات من تقارير حول الواقع العربي، بدءاً من ظاهرة العزوف عن القراءة وليس انتهاء بتسويق ثقافة عدمية، تسعى إلى تجريف الوعي وتغريب الإنسان عن واقعه، كي يستغرق في تقمص ومحاكاة واقع آخر مُتخيل. فالحديد كما يقال لا يفله غير الحديد، والثقافة العدمية التي تجرد الإنسان من هويته ووجدانه الوطني لا تحارب بالشجب فقط، أو بالإدانة اللفظية وما يتفرع عنها من هجاء، ومقاومة مثل هذه الثقافة تتطلب تكريس مناخات معرفية مضادة لها، على طريقة ما كان يسميه أندريه موروا الكاتب المسرحي.. وهو ليس أندريه مالرو الروائي ووزير ثقافة فرنسا في عهد الجنرال ديغول «المسمار المضاد»، وهو أن أفضل طريقة لطرد مسمار في الخشب هو دق مسمار آخر يقابله ويكون أشد منه صلابة وأطول منه أيضاً! فنحن نعيش في عالم لم تعد المضادات الكلامية تكفي لإظهار الحقائق، لأن هناك شروراً تتغذى من مبيداتها كما حدث لبعض الحشرات التي أدمنت مبيداتها وتأقلمت معها ثم أصبحت تسمن منها.
وقد تكون الحروب التقليدية بضجيجها والمرئي من غبارها ودخانها، والمسموع من تدافعها سبباً لحجب حروب أخرى لها أسلحة مختلفة وأساليب من طراز آخر. وفي مقدمتها الحرب الثقافية. وقد شهد العالم نماذج من هذه الحرب في ستينات القرن الماضي، حين عملت مؤسسات كثيرة على إغراق العالم الثالث بثقافة لا صلة لها بهواجسه وقضاياه، ومنها منظمة الثقافة الحرة التي كان مقرها روما وتديرها المخابرات الأمريكية، وأوقعت في براثنها مثقفين عملوا ضد مصالح أوطانهم وهم لا يعلمون، وبعض من علم منهم بعد فوات الأوان انتحروا!
وكما أن للحروب التقليدية غنائمها، فإن لحروب الثقافة غنائم لكنها مؤجلة!