بين القوميين والسودان الجديد

20-02-2018
كمال الجزولي

رغم أن الانقلاب الذي قاده داخل قوات «الحركة الشعبية» في السودان الفريق عبد العزيز الحلو، في أبريل/نيسان 2017م، قد وقع، على وجه التحديد، بمنطقة جنوب كردفان «جبال النوبا»، إلا أن قائده أعلن عن إقصاء الفريق مالك عقار من رئاسة الحركة كلها، والفريق ياسر عرمان من أمانتها العامة، في حين صمت عن ترتيب أي أوضاع لقوات الحركة في منطقة النيل الأزرق التي ما تزال فيها قوات تحت قيادة عقار، مما يحتم ضرورة استصحاب جناحه في أي ترتيبات «سلام» متفاوض عليه، باعتبار أن هذا هو مآل كل حرب دولية أو أهلية.
في هذا الظرف انعقدت في الأول من فبراير/شباط الجاري بأديس أبابا، تحت رعاية الآلية الإفريقية الرفيعة برئاسة ثابو امبيكي، أول جولة للتفاوض بين الحكومة السودانية والحركة جناح الحلو. وقد عولت الحكومة على هذه الجولة، تماماً، في إحداث اختراق في المنطقتين، كتسوية نهائية للأوضاع الحربية فيهما، مما لم يكن قد تيسر عبر كل الجولات التي جرت مع وفد التفاوض السابق برئاسة عرمان. فالحكومة، من جانبها، ظلت تأمل في أن تفضي هذه الجولة، في بعض نهاياتها، إلى وقف شامل لإطلاق النار، وفتح الممرات الآمنة للعون الإنساني.
غير أن هذه التسوية المأمولة عبر التفاوض، وبهذه الصيغة التي تتمسك بها الحكومة، وترغب آلية ثابو امبيكي المدعومة من أمريكا، والاتحاد الأوروبي، ودول الترويكا، في بلوغها، أيضاً، ما فتئت هذه التسوية تتباعد، لتتحول، في ما يبدو، إلى غول، أو عنقاء، أو خلّ وفي! فها هي حتى الجولة الجديدة التي أقصي عنها جناح عقار، تتعثر، هي الأخرى، ثم تترنح، ثم تنهار، بعد أربعة أيام من بدايتها، مما ألجأ الآلية الإفريقية إلى تعليق التفاوض نفسه، بكل ما في هذا القرار من إحباط، إلى أجل غير مسمى!
مفهوم جداً أن يتعثر أي تفاوض حول أي قضية بين أي طرفين. لكن غير المفهوم، البتة، أن يتسبب في مثل هذا التعثر طرف يكون جاء، أصلاً، إلى التفاوض، طارحاً نفسه بديلاً عن طرف قديم كان يتولاه في السابق، ولم يحسن، برأي الطرف الجديد، أداء المهمة، فانقلب على الطرف القديم، وأمسك هو بالملف. وهذا ما حدث بالضبط، إذ إن قيادة الحلو الجديدة أوعزت، في معمعان انقلابها، بما فهم منه أنها ستكون أكثر انفتاحاً على مشروع التسوية برؤية الطرف الآخر، وستكون أكثر مرونة في التفاوض، بسبب حاجتها لاعترافه بشرعيتها، واعتراف الإقليم، وربما العالم كله، فانشحن الطرف الآخر بأعظم التوقعات!
غير أن كنانة الطرف الجديد الذي يمثل جناح الحلو ما لبثت أن تكشفت عن خلوها من أي استراتيجية تفاوض أكثر مضاءً مما كان لدى أسلافها، فاتجهت، من ثم، إلى تبني نفس استراتيجية أولئك الأسلاف الذين كانت قد أخذت عليهم فشلهم في التفاوض مع الحكومة، فتسببت، هي نفسها، بهذا التناقض، في تعثر التفاوض، حيث لم يكن منتظراً أن تقبل الحكومة من جناح الحلو ما سبق أن رفضته من جناح عقار!
تثير هذه القصة القصيرة جملة ملاحظات. على أننا سنقتصر، هنا، على الإشارة إلى مسألة ذات خطورة استثنائية، هي مسألة «تقرير المصير» التي أثار المطالبة بها، بغتة، جناح الحلو. ففي إصراره على قصر التفاوض عليه وحده، حالة كونه يمثل منطقة جنوب كردفان «جبال النوبا»، إقصاء للجناح الآخر، بل ولمنطقة النيل الأزرق ذاتها، عن مثل هذه الترتيبات. فإذا علمنا أنه لا توجد حدود مشتركة بين المنطقتين، فإن هذه الواقعة تحصر الانقلابيين في خانة «القوميين»، بمنأى عن رؤية «السودان الجديد» التي هي رؤية «الحركة» الأصل، حسب المعلوم من أدبياتها! أما من جهة أخرى فإنه لم يعد ممكناً، بعد 2011م، أن تنطلق دعوى «تقرير المصير» من منصة «الحركة الشعبية السودانية» بفكرها القائم على رؤية «السودان الجديد». ذلك أن التناقض الرئيسي في فكر «القوميين» ببعده «الانفصالي»، هو أنهم وجدوا، دائماً، في صفوف الحركة، منذ أول تأسيسها، خصوصاً على أيام صراعات الوحدة/ الانفصال، دون أن يولوا أدنى اعتبار لهذه الرؤية التي تمثل العمود الفقري للسودان «الموحد» في فكر الحركة. لقد كانت معالجة د. قرنق لهذه المسألة، واستصحابها، لاحقاً، ضمن خطوط الحركة، رغم تناقضها مع مانيفستو 1983م، ضرباً من البصارة العملية التي هدفت للاحتفاظ، آنذاك، بأولئك «القوميين» في صفوف الحركة، بعيداً عن مخاطر إغراقها في لجج تلك الخلافات الباكرة.
غير أننا، لألف سبب وسبب، لا نعتقد أنه ما يزال ميسوراً ولا متصوراً أن تقوم أي مجموعة ذات إيديولوجية «قومية» بتسويق دعوتها إلى «تقرير المصير»، بغرض تحقيق «الانفصال»، خلف نفس شعارات «الحركة»، ولافتاتها، وراياتها!

kgizouli@gmail.com