الإيديولوجية والجدران العازلة

20-02-2018
عائشة عبد الله تريم

هل ضاق العالم بنا بعد اتساع وسعة؟ كيف أصبح العالم صغيراً ومختلفاً عمَّا كان عليه أيام أجدادنا؟ لقد ركبنا موجة التطور والتوسع فعبَّدنا الطرقات وأنشأنا الجسور، جبنا البحار وحلقنا فوق السحب، عبرنا المسافات بالطول وبالعرض ولم نعد ننظر إلى القمر في عليائه فحسب، بل وصلنا إليه ووطأنا أرضه.
نحن أبناء اليوم، بتنا قادرين على التواصل مع العالم بشكل قد تحسدنا عليه الأجيال السابقة، لكننا نسير في طريق محفوف بالمخاطر، يقبع فيه الظلام على الرغم من الأنوار المشعة حولنا. إننا نعيش حالة تباعد اجتماعي وفكري لم يشهدها أجدادنا والذين من قبلهم، بين أيدينا تتدفق المعلومات، نطلبها فتأتينا طائعة ومستجيبة من غير أن نبحث عنها.
لقد كانت المعلومات في الماضي نهراً متدفقاً أيضاً، لكن، لم يكن يسبح فيه إلا من حباه الله طاقة وقدرة على اجتيازه، إذ لم تكن السباحة سهلة أبداً، أما اليوم، فقد فاض النهر حتى بلغت مياهه أرضاً لم تكن محسوبة في خريطة الزمان. وها نحن نعوم وسط ذلك الفيضان، نحاول أن نرفع رؤوسنا قدر ما نستطيع عسانا ننجو من الغرق!
في الواقع، نحن نعوم وسط مزيج تختلط فيه الحقيقة بالوهم، إن لم يكن بالكذب. فالخداع بات جزءاً من عملية التواصل بين البشر، فبعدما كنا ننظر في عيني أي امرئ فنكشف ولو بعضاً من سريرته، صرنا لا ندرك مدى الصدق في عينين تلاعبت بنظرتهما البرامج التجميلية فشوهت الطبيعة وقلبت السحر على الساحر!
لقد تعلمنا أن في المعلومات التي نتزود بها قوة، لكننا تعلمنا أيضاً أن القوة قد تسخر لتكون مفسدة لا صلاحاً. ولأننا أدركنا أن السيل سيجرفنا، فقد قمنا ببناء ستائر أنترنيتية وهمية على أساس معلومات جرى تصنيفها وفق خوارزميات مستحدثة تتوافق مع اهتماماتنا.
بدت هذه الستائر للوهلة الأولى حلاً منطقياً لمشكلة محتملة؛ نحصل على ما نريد من معلومات ويتم ترشيح الباقي. وكما الحال في أي تجربة نمر بها، قد تأتي النتائج التراكمية مختلفة تماماً عن النتائج المتوقعة والمعوَّل عليها ظاهرياً، فتتخطى الآثار السلبية حدود المشكلة الأساسية، ونجد أنفسنا قد غيرنا أسلوب استهلاك المعلومات وتطرقنا إلى أساليب جديدة تتعلق بكيفية تلقيها وتحليلها.
وبسبب حيرتنا أمام هذا الكم الهائل من المعلومات، ابتكرنا أسلوباً جديداً جعل من ثقافتنا عبر التطبيقات ومحركات البحث، الثقافة الأكثر تصنيفاً عبر التاريخ، وهكذا طُمست أعيننا وصرنا مكشوفين أمام الآخرين، وبتنا مخيرين في متابعة ما يلفت اهتمامنا وتصنيفه ضمن لائحة اهتماماتنا، وصرنا نختار الصور التي نرغب في أن يراها الآخرون ممن نتواصل معهم وفقاً للمعايير التي نريدها، وهكذا وجدنا أنفسنا ومن غير أن ندرك مرتاحين في منطقة المعلومات التي اخترناها.
لكن الاستسلام إلى الراحة، يصيب بالخمول العقلي والعاطفي، لأنه يحد من خوض التجارب، ولأن الإنسان في كثير من الأحيان لا يفقه ذلك أو لا يريد أن يفقهه، فقد لجأنا إلى هذه المخابئ الإيديولوجية المريحة التي لا نرى فيها إلا ما ألفناه. فلمَ نضع أنفسنا في مواجهة أناس يختلفون معنا سياسياً أو إيديولوجياً، ونحن قادرون بنقرة زر واحدة أن نسكت كل من لا يعجبنا فكره؟
قد يبدو الأمر مريحاً، فنحن في غنى عن المشكلات ووجع الرأس، لكننا سنتحول مع الزمن إلى السلبية التي تشكل خطراً يهدد شخصياتنا وعلاقتنا بالآخرين. فالجدران العازلة التي نبنيها حولنا كي لا نسمع الضجيج في الخارج، ترجع إلينا صدى أفكارنا ومفاهيمنا لأننا لا نريد أن ندخل في متاهات، ولأننا نفضل الانسحاب من أي حوار قد تتعارض فيه وجهة نظرنا مع وجهة نظر الآخرين الذين غالباً ما نحكم عليهم بما يتفق مع مفاهيمنا ولا نعطيهم أونعطي أنفسنا الفرصة لفهم ما يجول في رؤوسهم.
إن الإنسان مخلوق اجتماعي يحتاج إلى التفاعل، وهذا التفاعل يتم عبر روابط لا تنشأ إذا أغلقنا عقولنا أمامها بملء إرادتنا، فتوصَد أبوابُ قلوبنا ونقع في خطر العزلة التي تحد من مفاهيمنا. لا شك في أننا نجني من تبادل الآراء والحوارات فائدة كبيرة تتمثل في بناء مجتمع أكثر تسامحاً واستنارة. والخوف يجعل الجدران حولنا أكثر متانة وصلابة، فنحن نخاف من أن نتأثر بأفكار جديدة، فتعترينا الريبة من أن نتعرض لفِكر قد يمزق نسيجنا الفطري، فلا نسعى إلى تزويد أنفسنا بمعلومات جديدة حتى لو كانت مفيدة.
التغيير مطلب يرضي فضول البشر ويجعلهم أكثر حكمة. فإذا خرجنا من البوتقة التي وضعنا أنفسنا فيها، وتعرفنا إلى مكامن الجمال في مواطن أخرى، واقتربنا أكثر من العالم الخارجي، وبنينا بدل الجدران جسوراً فكرية وعاطفية، فسوف نحلق في سماء مختلفة تتنوع فيها الآراء والفِكر.

aysha_t@gulftoday.ae