التخصص والعمل

19-02-2018

ليس بالضرورة أن يعمل الإنسان في مجال تخصصه، هذا على الأقل ما أؤمن به وما حاولت أن أبينه في كثير من اللقاءات، فالدراسة يمكن أن تعطينا المهارة والمعرفة التي يمكن أن نوظفها في أعمال كثيرة قد تتقاطع معنا في الحياة ولكن ليس بالضرورة أن نلتزم بموضوع هذه الدراسة بقية حياتنا. العمل في مجال التخصص فقط وحصر جميع الفرص في هذا الاتجاه هو نوع من ضيق الأفق وقيد يفرضه البعض على نفسه ويؤدي في كثير من الأحيان إلى البطالة. أقول هذا بعدما نشرت تغريدة قبل عدة أيام عن مجموعة من المهندسين الشباب الذين تخرجوا من جامعة الملك فهد، وهم من سكان مدينة الرياض، حيث إن هؤلاء الذين تخصصوا في الهندسة الكهربائية وقاموا بتأسيس مطعم في أحد مناطق الرياض وأصبح المطعم ناجحًا جدًا ويقدم نوعية خاصة لا تجد لها مثيلًا في المدينة وجدوا أنفسهم أكثر في هذه الصنعة التي قد يستغربها بل قد يستهجنها البعض كما فعل المغردون.

المهندسون الشباب الثلاثة بدأوا بعربة مأكولات منذ ثلاثة أعوام وانتهوا بهذا المطعم المتميز والمكتظ بالزبائن. التقيت بأحدهم وحكى لي قصة مثابرتهم كي يصلوا إلى ما وصلوا إليه وقال إنهم مروا بمعاناة تعلموا فيها الصنعة التي أحبوها عندما كانوا في الشرقية في الجامعة وكيف عملوا على توفير رأس المال وكيف وظفوا جميع مهاراتهم الهندسية كي يصنعوا «البراند» الخاص بمطعمهم. شخصيًا رأيت أن الشبان يملكون من الشجاعة ما لا يملكه كثير من الناس، شجاعة في «التجريب» والأهم شجاعة في «الاختيار».

القصة أعجبتني جدا وذكرتني بمجموعة مهندسين سعوديين عملوا قبل ثلاثة عقود على تأسيس سلسلة مطاعم ويبدو لي أن هناك علاقة قوية بين تخصص الهندسة وبين المقدرة على تأسيس مطاعم ذات مقدرة على الانتشار والتوسع. ربما أعزو هذا إلى التفكير المنطقي المنظم الذي عادة ما يميز المهندسين عن غيرهم. على أن المثير هو أن ردود الأفعال لدى المغردين كانت متباينة وكثير منها سلبية وتنتقد تحول هؤلاء المهندسين إلى مجرد «عمال في مطعم» وهم بالطبع ليسوا عمالًا، بل ملاك للمطعم، وإن كانوا يعملون بأنفسهم ومعهم بعض السعوديين الذين يقومون باعداد الطعام وتقديم الخدمة. ولعل هذا يعيدنا إلى مشكلة ثقافية عميقة يعاني منها مجتمعنا وهي النظر لبعض المهن نظرة دونية دون وجه حق. كثير من النقد وجهه المغردون إلى ضياع سنوات الدراسة وإهدار الطاقات الهندسية التي يحتاج لها البلد. بعض النقد الأكاديمي كان موجهًا إلى كيف يقوم هؤلاء بالعمل في مجال آخر ويضيعون مقاعد دراسية مهمة على زملاء لهم كانوا أحق بها.

هناك فرق بين الرغبة المبكرة وبين نضوج الرغبة المهنية، وهذه اشكالية قد لا يعترف بها البعض بينما رأينا كثيرًا من الأطباء مثلا عملوا كفنانين وتشكيليين وككتاب وكذلك المهندسون وغيرهم. لا نستطيع أن نلوم هؤلاء لأن رغباتهم المهنية نضجت وعرفوا ما يريدون متأخرًا ولا نستطيع أن نقول إنهم ضيعوا مقاعد دراسية مهمة على زملاء لهم كانوا أحق بها. الحياة دائما تتسع في عيني الإنسان وعقله ويبدأ برؤية ما لم يكن يراه في السابق وتتبدل اختياراته مع الوقت، والإنسان الواثق من نفسه هو الذي يستطيع الاختيار في الوقت المناسب. من الأولى أن نشجع الشباب على سلوك مسالك جديدة ومختلفة عما تعلموه في الجامعة إذا كان ذلك بناءً على رغبة منهم، كما يجب علينا ألا نقف أمام الخيارات الجديدة التي قد يختارها الشباب حتى لو كانت غريبة وبعيدة عما تعلموه، إذا كانت هذه الخيارات مبنية على قناعات أكيدة، لأنها قناعات تصنع الإبداع والتميز وهذا ما يجب أن نحرص عليه.