أهمية الفتوى

جريدة الرياض
18-11-2019

كتبت في هذه الصحيفة الغراء نحواً من مئة وأربعين مقالاً في إطار عمود كان عنوانه الرئيس:"المسائل المالية المعاصرة".

ومن خلال هذا العمود بينت المنهجية العلمية في بحث المسائل المالية، ودرست عدداً من أبرز هذه المسائل؛ بالإضافة إلى طيف من الموضوعات التي شاركت بها القراء بين الوقت والآخر.

الآن ــ وفي هذا الركن من الصحيفة ــ سأتخصص في عنوان عريض؛ أبحث من خلاله عدداً من القضايا المتصلة به، ذلكم هو: "الفتوى".

الفتوى التي تعني: إجابة السائل عن دليل شرعي. فتتمثل صورتها في طرفين: سائل ومجيب. وإذا تصورت الفتوى على هذا النحو؛ فستعرف: أن ثم قضايا كثيرة تتعلق بالسائل، وأخرى تتعلق بالمجيب الذي هو المفتي.

والسؤال الذي نفتتح به هذه المقالات: لماذا التركيز على هذا العنوان "الفتوى"؟

للجواب عن ذلك، نقول: إنه بكل تأكيد، كانت الفتوى وما زالت وستبقى عاملاً مهماً في المجتمعات المسلمة، سواء تلك الفتاوى التي تتعلق بالأفكار والمعتقدات، أو تلك التي تتعلق بمعاش الناس ومعاملاتهم، إلى علاقاتهم وتصرفاتهم الاجتماعية. وتكون الفتوى ذات أثر إيجابي إذا صدرت عن المتأهل، وصادفت المحل المناسب، والعكس صحيح: يكون لها تأثير سلبي إذا صدرت عن غير المتأهل، أو صادفت محلاً غير مناسب، مع أن المتأهل من المفترض أن يراعي الشروط المطلوبة لصدور فتواه، وإذا لم يراع ذلك فهذا يعني نقصاً في تأهيله، فرجع الأمر كله إلى: " التأهيل "، مما سنبحثه في مقالات قادمة بإذن الله.

كان السلف يتورعون جداً عن الفتوى، وكلماتهم ومواقفهم في ذلك معروفة متداولة؛ لكنني هنا أختار ما ذكره الأعمش عن إبراهيم النخعي، وكلاهما إمام؛ بيد أن الأول أعني الأعمش: اشتهر بالقراءة والحديث، فقد كان شيخ المقرئين والمحدثين. أما النخعي فبالإضافة إلى أنه محدث، فقد كان فقهياً، بل فقيه العراق، وكان متخصصاً بفقه ابن مسعود رضي الله عنه. وقد أنكر سعيد بن جبير ــ وهو إمام كبير ــ أن يستفتى بوجود النخعي، وقال: أتستفتونني وفيكم إبراهيم؟!

الشاهد الذي دعانا إلى هذا الاستطراد: أن الأعمش يقول: ما سمعت إبراهيم النخعي يقول قط: حلال وحرام، إنما كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون.

نلاحظ هنا: أنه لا ينسب الفتوى إلى نفسه "أنه يرى كذا وكذا" بل ينسب الفتوى إلى من سبقه من أهل العلم، ثم تلاحظ أنه يتورع عن الأحكام الجازمة بالتحليل والتحريم.

نحن ــ الآن ــ في غاية الحاجة إلى أن نبث هيبة الفتوى هذه في القلوب، سواء في جانب السائل أو المجيب. السائل ينبغي له أن يتذكر أنه يسأل عن أمر يخص دينه الذي هو أغلى وأعز ما لديه، فلا يختار لسؤاله إلا العالم الراسخ، والمجيب ينبغي له أن يعلم أنه إن لم يكن أهلاً للفتوى فهو في الجواب مأزور غير مأجور، ثم إن كان أهلاً فلن يخرج من التبعة إلا إذا أدى الأمانة كما ينبغي، مما سنعرفه - إن شاء الله - في مقالات قادمة بإذن الله تعالى.