شهادة البدويّ والحضريّ.. ومعيار الفضل

جريدة الرياض
19-09-2019

إنّ الحرمين أشرف الحواضر كان فيهما كفارٌ ومنافقون، وإن الأعراب منهم مؤمنون، فتبيَّن أن الموطن ليس معياراً كافياً لإطلاق المدح أو الذّم، والسُّكنى في البادية من متطلبات التكامل الحيوي..

معيار الفضل عند الله هو تقواه بالتزام أوامره، واجتناب نواهيه، وللتقوى درجاتٌ متفاوتةٌ جداً يكون للإنسان من الفضل بمقدار ما حصّلَ منها، يقول الحق تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ)، ونسبُ المرءِ ومسكنُهُ وحالتُهُ الاجتماعية لا تكفي معياراً موحّداً لمدحِهِ مطلقاً، ولا لذمِّهِ مطلقاً، أما النسب فمعلومٌ أن من أبناء بعض الأنبياء من كَفَرَ كابنِ نوح عليه السلام، وأما المسكن فهو كذلك لا يكفي معياراً للمدح أو للقدح، وقد ردَّ الله على مشركي قريش اعتدادهم بأنهم أهلُ الحرم المكي وعُمَّارُهُ ومقارنتهم ذلك بما عليه الصحابة من الإيمان فقال: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله)، وإذا تقرّر هذا فالآية التي نزلت في بعض الأعراب حول المدينة تُبيِّنُ كفرهم ونفاقهم ليس مدلُولُها حُكماً عاماً على الأعراب بتلازمهم مع هذه الصفات، كيف وقد ورد بعدها بآيةٍ قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ثم قال بعد ذلك عن منافقي المدينة: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)، فتبيَّن بهذا أن الحرمين أشرف الحواضر كان فيهما كفارٌ ومنافقون، وأن الأعراب منهم مؤمنون، فتبيَّن أن الموطن ليس معياراً كافياً لإطلاق المدح أو الذّم، والسُّكنى في البادية من متطلبات التكامل الحيوي فإن دولة المسلمين لما استتبّت كان التوزّع بين القرى وبين البوادي أمراً ضرورياً للحياة؛ فلكل من أهل الحضر والبادية دورٌ حيويٌّ يقوم به لا يُغني عن دور الآخر، فإدراة الدولة وما تتطلّبه لا بُدّ لها من حضارةٍ، وللبدو إسهاماتهم التي من أهمهما كونهم الاحتياط الأهمّ لقوّة الدول؛ لِـمَنَعَتِهِمْ واستعصائهم على الغُزاة؛ ولهذا لما احتُضِرَ عمر رضي الله تعالى عنه أوصى بالمهاجرين والأنصار والأعراب فقال فيهم: (وَأُوصِيكُمْ بِالْأَعْرَابِ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُكُمْ وَمَادَّتُكُمْ، وفي رواية: وَأُوصِيكُمْ بِالْأَعْرَابِ؛ فَإِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَعَدُوُّ عَدُوِّكُمْ)، ومما له صلةٌ بهذا الموضوع الكلام عن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ)، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وقال عنه الذهبي: وهو حديثٌ منكرٌ على نظافة سنده، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ احْتَجَّ بِهِمْ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وصحّحه الألباني، والجمهور لم يأخذوا بهذا الحديث، وحملوه على من لم تعرف عدالته من أهل البدو، فشهادة البدويّ على القرويّ جائزةٌ عند الحنفية والشافعية والحنابلة على ما هو المذهب عندهم، قال ابن نجيم الحنفي: (والعامة على قبول شهادة الأعرابي والقروي إذا كان عدلاً)، وقال الإمام الشافعي: (وهكذا تجوز شهادة البدويّ على القرويّ، والقرويّ على البدويّ)، وقال المرداوي الحنبلي: (وأمَّا شَهادةُ البَدَوِيِّ على القَرَوِىِّ، فقدَّم المُصَنِّفُ هنا قَبُولَها، وهو المذهبُ)، وقد أخذ بهذا الحديث الإمام مالك فمنع شهادة البدويّ على الحضريّ في الحقوق، وعلّل المالكية ذلك بالتهمة التي تلحق الحضريّ في ذلك؛ لأن الناس لا يتركون التوثُّق بإشهادِ جيرانهم وأهل بلدهم ويستشهدون بالأباعد وأهل البدو إلا لريبةٍ، فالتّهمة هنا مُتعلّقةٌ بالحضريّ طالب الشهادة لا بالبدويّ، وقد قَبِلَ المالكية شهادة البدويّ على الحضريّ إن كانت الشهادة في البادية مثل أن تحضره بها الوفاة فيُوصي أو يبيع بها أو يبتاع، كما قبلوا شهادة البدويّ في الجراح؛ لأنه يُلتمسُ فيها حين الغفلة، واعترض الجمهور على المالكية بحُججٍ منها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قَبِلَ شهادة الأعرابي في هلال رمضان وصام، وأمر الناس بالصيام، وبأن الشهادة في الجراح أغلظ منها في الأموال فلما قُبِلَتْ شهادة البدويّ على القرويّ في الجراح، كان أولى أن تُقبَلَ في غير الجراح، هذا وقد قال الإمام الخطابي (يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِمَا فِي أَهْلِ الْبَدْوِ مِنَ الْجَهَالَةِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَقِلَّةِ ضَبْطِهِمُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَإِقَامَتِهَا عَلَى حَقِّهَا لِقُصُورِ عِلْمِهِمْ عَمَّا يُحِيلُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وعارَضَهُ بعض العلماء بأن البدويّ إذا كان معروفَ العدالةِ كان ردُّ شهادتِهِ لعلّةِ كونه بدوياً غير مناسب لقواعد الشريعة؛ لأن المساكن لا تأثيرَ لها في الردِّ والقبول؛ لعدم صحّةِ جعلِ ذلك مناطاً شرعياً؛ ولعدم انضباطه، فالمناط هو العدالة الشرعية.