المبتذل في الأدب

جريدة الرياض
24-05-2019

يكتب و كأنّه يقف أمام قارئه غاضبا ويبصق الكلمات المبتذلة على أنواعها في وجهه، يقتني تلك التي تثير الإشمئزاز، والغثيان، والقرف، ويطرّز بها نصه، تبدو الأمور وكأنّها تصفية حسابات قديمة بينه وبين أحدهم، ولكنّه في فورة الكتابة يُشرِك الجميع في حفلة غضبه تلك...

سنة 1930 كتب آلدو هاكسلي كتابه "الابتذال في الأدب" داعيا إلى التأمل في الفن والفلسفة والتاريخ والأخلاق والثقافة الحديثة، وقد ارتبطت تساؤلاته وأجوبته بحقائق صادمة حول محمولات الأدب والفن و ما أطلق عليه اسم "الحالة الإنسانية" بكل هشاشتها.

يختصر هاكسلي الحالة التي نعيشها اليوم، بحكم تأخرنا زمنيا دائما عن الحالة الغربية، إذ سرعان ما نفهم أن ما نعيشه اليوم مختلف تماما عمّا عاشه إنسان القرون الوسطى في أوروبا مثلا، وإنسان عصر النهضة، والعصور التي كانت تتباين فيها الرؤية بين المقدس والإنساني البسيط..

في التراث العربي يختلف سُلّم هذه المفاهيم تماما، فقد كانت المقولات في عصر الازدهار الإسلامي تحترم الهشاشة الإنسانية أكثر من أي زمن آخر، وقد تزامن الانحدار الفكري في مجتمعاتنا مع تصاعد الخطاب الأخلاقي المزيف الذي حارب تلك الهشاشة، وتعامل مع الإنسان كمادة جافة خالية تماما من مركبات الحياة.

النفق المظلم الذي نزحف فيه نحن وآباؤنا وأجدادنا وسلفنا المنكسر يستمر منذ سقوط صروحنا السياسية في حروب الغلبة للآخر علينا، وقد نعتبر منتصف القرن العشرين زمنا فارقا لتلك المتاهة التي لم نخرج منها بعد، وهي حتما لها تداعياتها الفكرية، منها ظهور هذا الأدب الساخط، رشيد بوجدرة، أمين الزاوي، كمال الرياحي، وآخرون يعيدوننا إلى مرحلة الصمت التي فرضت على أجيال بأكملها باسم الفضيلة وترسيخ المقدسات في الذات الإنسانية على الضعف والرغبات والخطايا، سيكولوجِيًّا تأتي الصحوة المتأخرة للإنسان الناضج لاستعادة ما سلب منه، بالتمرّد، ووضع مسافة مع ذلك الآخر الذي انتهك فضاءه الخاص، بالكلمة البذيئة التي تصدم الأذن واللاوعي معا،

فكل ما هو سكاتولوجي يصب في إخفاء علامة اجتماعية مهمة، تشير مباشرة إلى عامة الناس، إلى الحشود التي تمارس المحرمات، ولا تتم إدانتها، إلى السقوط الحر نحو فئات القاع، حيث لا يكفي التمسك بحبال الكلمة الجميلة لنقل واقعها، حيث المسألة تتجرّد تماما من المحتوى اللغوي، لتأخذ صبغة وصفية محضة.

تتقاطع رغبات التمرد في المجتمعات الازدواجية، لتنجب هذه الظاهرة الأدبية، لكنها بين مهلل لها ومُدين، لا نجد قراءة نقدية جادة لها، كونها تلقي الضوء مباشرة على العصا التي علّمتنا الصمت منذ نعومة أظافرنا.