نظارة بلا عينين

جريدة الرياض
21-05-2019

الخيال هو (بساط الريح) الذي يحمل عواطف الشاعر لنا، ويجعل مشاعره حيّةً أمامنا، الخيال هو الأساس في كل عمل إبداعي بما في ذلك الفن المعماري، بل إنّ الإنسان العادي لا يمكن أن يستغني عن الخيال بالكامل، فالإنسان بلا خيال نظارة بلا عينين، ولكن الشاعر خاصة، وكل فنان بشكل عام، له من سعة الخيال ورحابته ما يُجسّد خياله في صور خلّابة تمنحها الانتشار وتجعلها قادرة على البقاء وتحدّي الزمان.. ومع ذلك فإن الخيال إذا زاد عن حدّه، وأبحر في عوالم واهمة، ولم تسنده عواطف حارة صادرة من القلب، يجعل الشعر يميل إلى التكلف، ويصبغه بألوان منفصلة وصور شبه خاوية تجعل الشاعر أقرب إلى البهلوان، وربما وُجد ذلك عند بعض كبار الشعراء، وخاصة لدى المغرمين بالتجديد المسرفين فيه، كأبي تمام الذي هو من كبار شعراء العربية، وأكثرهم تجديداً في زمانه، وأغزرهم صوراً، شعره رائع محلّق في الخيال، ولكنّ هناك فرقاً بين قوله في رثاء قائد استشهد: 

مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضة ٌ غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنَّها قبرُ

وقوله:

كأنَّ الغيُومَ جيُوشٌ تسُومُ مِنَ العدلِ في كلِّ أرضٍ صَلاحا

إذا قاتَلَ المَحْلَ فِيها الغَمامُ بِصَوْبِ الرِّهامِ أجادَ الكِفاحا

فَوافاهُ يَحْمِلُ مِنْ طَلِّهِ ومنْ وبلِهِ للقاءِ السِّلاحا

يقرطِسُ بالطَّلِّ فيهِ السِّهامَ ويُشْرِعُ بالوبْلِ فيهِ الرِّماحا

وسَلَّ عَلَيْهِ سُيوفَ البُروقِ فأَثْخَنَ بالضّرْبِ فيهِ الجراحا

ترى ألسُنَ النَّوْرِ تُثْنِي عليهِ فتعجَبُ منهُنَّ خُرْساً فِصاحا

فالأول يقوم على خيال شاعري مُجَنِّح يثير السامع ويعجب الناقد، والثاني يجنح إلى خيالٍ واهم يتصيّد صوراً لا ثبات لها في الخيال السليم.