بوتين وتركة الحقبة السوفييتية

12-01-2019
الحسين الزاوي

واجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ توليه مقاليد السلطة في روسيا مع نهاية سنة 1999، كرئيس مؤقت لفيدرالية روسيا، بعد استقالة بوريس يلتسن، تركة ثقيلة من الحقبة الشيوعية بدأت مع بروز التوجهات الانفصالية، لاسيما في الشيشان التي اندلعت فيها الحرب الثانية بداية من 26 أغسطس/آب 1999، وتواصلت إلى غاية 6 فبراير 2000؛ تاريخ استعادة القوات الاتحادية لمدينة غروزني عاصمة الإقليم من قبضة المتمردين.
وقد تمثلت أبرز نتائج انهيار الاتحاد السوفييتي، ومعه كل الكتلة المشكلة لحلف وارسو، في التحاق معظم دول أوروبا الشرقية بحلف الناتو الذي استمر في التمدد نحو الحدود الغربية لروسيا بخطوات كبيرة، لم تتوقف إلا مع اندلاع الأزمتين الجورجية والأوكرانية، اللتين اتهمت روسيا الدول الغربية بالتسبب في اندلاعهما بهدف محاصرتها.
وإذا كانت الأوضاع في جورجيا قد عرفت بعض الاستقرار بعد سقوط النظام المعادي لموسكو في هذا البلد، فإن الأزمة الأوكرانية مرشحة للتفاقم، خاصة مع تنامي الشعور المعادي لروسيا في مناطق أوكرانيا الغربية، التي لا تقطنها الأقليات الناطقة باللغة الروسية، وهي مرشحة لأن تتحول مع مرور الوقت، إلى صراع وجودي بين الطرفين، لاسيما بعد إقدام الكنيسة الأرثوذوكسية في أوكرانيا، على فك ارتباطها بالمجمع الكنسي في روسيا.
وبموازاة صعوباتها الجيوسياسية مع دول الجوار، تسعى روسيا في زمن بوتين إلى استعادة ما تبقى من النفوذ السوفييتي الذي أضاعه يلتسين بطريقة ما زالت تطرح أسئلة جدية بشأن التزامه بمقتضيات الأمن القومي الروسي. ويبدو أن التحولات التي يشهدها العالم تجعل مواقف روسيا التقليدية الموروثة عن الحقبة السوفييتية، تتغير تجاه كثير من الملفات، فقد تراجع مثلاً مستوى التأثير الروسي في الصراع العربي «الإسرائيلي» بشكل كبير، بحيث يمكن القول إن موسكو لا تمتلك في المرحلة الراهنة أجندة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، تتجاوز نطاق طموحها إلى المحافظة على وجودها الاستراتيجي في سوريا، التي حققت فيها نجاحات يصعب الحكم على تأثيراتها في الوقت الراهن.
هناك من جهة أخرى، أسئلة جديدة باتت تُطرح بشأن النفوذ الروسي في دول أمريكا الجنوبية، لاسيما بعد خروج عائلة كاسترو من السلطة في كوبا، واتجاهها نحو فكّ عزلتها، والانفتاح بشكل تدريجي على المستويين الإقليمي والدولي، ومن المستبعد أن تشكّل فنزويلا على المدى المتوسط حليفاً جدياً لروسيا في المنطقة؛ نظراً إلى الصعوبات الكبيرة التي يواجهها الرئيس مادورو من أجل الحفاظ على نظامه في مواجهة قوى اليمين المدعومة من واشنطن.
ومن المحتمل بناء على ما سبق أن يؤدي انتقال السلطة في البرازيل؛ أكبر قوة في المنطقة، إلى اليمين الشعبوي بقيادة جايير بولسونارو، إلى تفتيت ما بقي من سلطة لقوى اليسار الموالية لروسيا في أمريكا الجنوبية.
أما أكبر تركة لروسيا بوتين، فتتعلق بعلاقات موسكو البالغة الدقة والحساسية مع دول شرق ووسط آسيا، فالنزاع الحدودي مع اليابان على جزر الكوريل التي كان الاتحاد السوفييتي قد وافق على تقاسمها مع طوكيو في الخمسينات من القرن الماضي، قبل أن يتراجع عن قراره بسبب ظروف الحرب الباردة ما زال قائماً، ومن المستبعد في المرحلة الراهنة أن يصل الطرفان إلى اتفاق يُفضي إلى تسوية سريعة له. كما أن التقارب الاستراتيجي الذي حدث خلال السنوات الأخيرة ما بين موسكو وبكين، لأسباب جيوسياسية تتعلق بصراعهما مع الغرب، لا يمكنه أن يخفي التنافس التاريخي بين الجارتين.
كما أن علاقات موسكو بدول وسط آسيا وخاصة مع الجمهوريات السوفييتية المستقلة، ليست دائماً على أحسن ما يرام، بسبب التوجهات القومية لشعوب المنطقة التي تهفو إلى مزيد من الانفتاح على الغرب، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن العلاقات المعقدة لروسيا مع إيران، التي لم تعرف في تاريخها المعاصر علاقات متوازنة مع العالم الخارجي، وبشكل خاص مع القوى العظمى، فقد انتقلت طهران من التحالف الكامل مع واشنطن في عهد الشاه، إلى «زواج المصلحة» مع موسكو التي بات من الصعب عليها الترويج لهذا الزواج، في سياق دولي وإقليمي بالغ الخطورة.
ويمكن القول تأسيساً على ما سبق إن روسيا في عهد القيصر بوتين تجد صعوبات بالغة في تدقيق حساباتها المرتبطة بعلاقاتها الموروثة عن الإمبراطورية السوفييتية، اعتماداً على إمكانيات متواضعة لدولة تعاني أزمة اقتصادية مزمنة، وتبعية كبيرة لعائدات النفط، وستضطر مستقبلاً إلى إجراء تقييم واقعي لعلاقاتها مع كثير من دول العالم.

hzaoui63@yahoo.fr