الأيديولوجيا النفسية!

18-02-2018

التحليل النفسي الفرويدي يرى العقل موطناً للأيديولوجيا، ويلتمس وجودها في تصعيد الدوافع.. ودورها في التوازن والتحكم والسيطرة، والتبرير غالباً، ثم جاءت المدارس المتأثرة به لاحقاً لتؤكد على دور الوعي في معالجة مسألة الحرية بوصفها أيديولوجيا الفكر الحديث، وإمكانية بلوغ الإنسان حريته بالخروج من دائرة الصراع بين مبدأ التغيير ومبدأ الواقع، وإمكانية خلق حضارة نقدية تقرر المصالحة بين الدافع والحرية والعمل، كما أفرزت دراسات أخرى عن تكامل الوعي الاجتماعي واشتراك الأيديولوجيا والسايكولوجيا الاجتماعية في فرز مدخلات الوعي وعملياته ومخرجاته، بينما اهتمت الأيديولوجيا النفسية بمواجهة الصراع الإنساني بين قنوات التعبير عن الدوافع والإشباع الذاتي.

كل ذلك الجدل حول الأيديولوجيا لا يعني أنها محايدة في التقرير، أو قريبة من التوفيق، أو حتى بديل عن التغيير، ولكنها تسلك طريقاً إلى ما هو مطلوب تحقيقه في مرحلة زمنية من التاريخ، وتصنع فارقاً في نمطية التفكير بين الواقع والمستقبل، فكل فكرة إما أن تكون طوبى وإما أن تكون إيديولوجيا، فالطوبى هي التفكير الذي يريد تمثّل المستقبل واستحضاره، أما الأيديولوجيا فهي التفكير الذي يهدف إلى استمرار الحاضر كما هو عليه، فالليبرالية كانت طوبى في القرن الثامن عشر في أوروبا، ثم اصبحت أيديولوجيا في القرن التاسع عشر.

اليوم في مجتمعنا أفكار طوبائية تتشكّل في مواجهة التطرف، والانغلاق، والتلقين، وتحمل معها مشروعات تغيير نحو إعادة بناء الإنسان بوسطيته واعتداله، وحريته المسؤولة، وتجديد خطابه وسلوكه، وكل ذلك ليس بعيداً عن الثوابت الدينية والاجتماعية، ولكنها استمرار للحالة الطبيعية التي كان عليها المجتمع قبل نحو ثلاثة عقود، وتأكيداً على أن أيديولوجيا المستقبل التي تحمل تلك الأفكار ليست إقصاءً لأحد، أو رفضاً للآخر، وإنما رغبة الخروج من الصراع والتناقض إلى حالة مصالحة بين أفراد المجتمع للنهوض مجدداً في مهمة التغيير للأفضل.

ليس سهلاً أن يسابق المجتمع نفسه في التغيير، ومواجهة حالة الصراع النفسي بين القبول والرفض لكل ما يثار من قضايا وأجندات، ولكن الأهم أن نكون مستقلين في التعبير ولسنا تابعين لأحد، أو مقلدين لمنهج لا يستقيم مع واقع متجدد، أو متأثرين بمواقف وتوجهات خارج منظومة المجتمع.

الأيديولوجيا النفسية أفرزت لنا فئة من المجتمع ما زالت تراقب المشهد لتختبر إراداتها في التغيير بعد كل تلك العقود التي نشأت عليها أفكارها، وتعيش حالة صراع بين واقع يتمدد بقوة نحو ذلك التغيير وبين الحاجة إلى مزيد من الوقت لتقرير مواقفها وتوجهاتها، وما بين ذلك وذاك حتماً لن تكون تلك الفئة تابعة لأحد، أو متوجسة من ردات الفعل على سلوكها؛ لأنها باختصار آمنت أن التغيير الذي يقودها إلى المستقبل هو التحرر أولاً من تبعية الأفكار التي فرضت عليها يوماً ما، والعودة إلى العقل الذي هو موطن الأيديولوجيا الجديدة كما يقول فرويد.