الكِتابُ في زمن الإنهاك..!!

18-02-2018

الهيئة العامة للثقافة في السعودية، التي مضى على قرار إنشائها أكثر من عام ونصف، معنية بدعم مشروع ثقافي يجب أن يكون الكتاب أحد عناوينه الأساسية. وأعتقد أن الهيئة إذا لم تبدأ ببرنامج دعم الكتاب من خلال إنشاء هيئة للكتاب فهي تتجاهل أهم ركائز الثقافة العامة..

سيظل الكتاب مهما تطورت وسائل النشر الأخرى، عشق القراء ومتعة الاكتشاف، وزاد المعرفة، ووسيلة الترقي الذهني والإمتاع النفسي.

وفي حين تخبو متع كثيرة مع التقدم في العمر، وتبدل الاهتمامات، وانحسار وهج أخرى، تظل متعة الفكر وتذوق الإبداع والرحيل مع الكُتاب المجيدين، متعة ممتدة نادرا ما اعتراها الفتور.

والتجول والبحث في معارض الكتب ليست مهمة العابرين.. بل مهمه الفاحصين والقراء الباحثين.. وبين آلاف الكتب، عندما تقع عين القارئ الباحث عن كتاب مختلف، فهو يلتقطه باحتفالية خاصة.

إنها غواية الكتاب والمعنى في آن. وان كانت الشواهد اليوم في زمن الإنهاك العربي، تلقي بظلالها على سوق الكتاب ورواده وقرائه وناشريه.. إلا أنه سيظل طريقاً لا سواه لمن يريد أن يحلق في أجواء المعرفة والمتعة. وسيظل القلم والكتاب، طالما كان ثمة عقل وقراء وباحثون وكُتاب، ومهما بدت دلائل الانحسار والضعف.. وقد يمرض سوق النشر إلا أنه من المحال أن يموت.

في معرض القاهرة للكتاب، التقى بقراء من بلدي لا أعرف لهم إسهاماً معرفياً أو إنتاجاً أدبياً أو فكرياً.. إلا انهم جزء من هذه المعادلة المدهشة.. معادلة المتعة والمعرفة. يأتون كل عام لانتقاء حصيلتهم من كتب جديدة.. ويجمعون بين متعة السفر والكتاب في آن.

معرض كبير، سوق ضخم مشتت ومتنوع تكتشف فيه درراً وكنوزاً لكن تحت وابل من الغبار والهرج والمرج .. وماذا ستفعل عدة أيام في معرض تبلغ عدد اجنحته أكثر من 1100جناح، ماذا ستفعل في عدة أيام في ساعاتك المحدودة لاكتشاف الجديد والنادر، مما يأخذك الى مباهج المتعة والاكتشاف!!

لا أتحدث عن فعاليات أخرى كالندوات والقراءات، فتلك تبرمج وفق أجندة مؤسسات، وليس بالضرورة أن تناسب قارئاً غير معنى بها.. وتتوقف عنايته عند الكتاب ولا سواه.

يشكو الناشرون العرب منذ عدة أعوام من تراجع مبيعاتهم، بينما الطوابير الطويلة للزائرين تنتظر الدخول للمعرض كل يوم. كثرة الزوار لا تعني كثرة البيع.. ولو اشترى كل زائر كتاباً واحداً أو اثنين لاعتقدت أن الأجنحة ستكون خاوية في الغد!!

تدهور سعر العملة المحلية، ألقى بظلاله على أسعار الكتب، خاصة تلك التي تأتي بها دور نشر عربية وأجنبية، والتي تقدر قيمة الكتاب بالدولار، ليصل لأرقام مرهقة بالعملة المحلية.

ألمح قارئاً جاداً يتصفح كتاباً، ويسأل عن سعره، يعيده لمكانه، ثم يعود يساوم لعل وعسى.. ثمة شغف لا يقاوم وثمة دخل محدود يلقى بظلاله حرقة على فوات فرصة اقتناء كتاب. تساءلت حينها كيف يمكن مساعدة هؤلاء، وهم الحضور النادر في زمن الانهاك والانصراف.

إلا أن ثمة ميزة لهذا المعرض قد لا تتوافر في سواه. وهي مشروعات بقيت علامة مضيئة تسهم في دعم القارئ مهما كانت إمكانياته المادية. في عدة خيام وسرادق تتوزع مجهودات مؤسسات ظلت تزود القارئ بكتب ثمينة وبأسعار زهيدة.

الهيئة العامة للكتاب، وكتاب الأسرة، والمركز القومي للترجمة.. مصادر نشر حيوية، قبلة الباحثين عن الكتاب بأسعار زهيدة.. كتب مميزة وفي مختلف فروع المعرفة والإبداع.. ربما يكفي أن تملك ما يعادل خمسين ريالًا، لتخرج بحصيلة ممتازة ووافرة من كتب تلك الدور..

أما سور الأزبكية التي يتسع كل عام.. فعليك ان تكون صبورا في البحث والتنقيب لعلك تظفر بكتاب مختلف، مهَّره قارئه قبل عقود بتوقيعه ورحل.. إلا أن القيمة الفكرية والفنية لازالت تشع بين ثنايا ورق مازال يحمل رائحة الحبر وزفرات عشاق مختلفين.

سوق الكتاب العربي ليس على ما يرام كحال العرب اليوم. يشكو الناشرون من ضعف المبيعات، لكنهم يصرون على البقاء.. من تأخذه الحرفة لعالم النشر، سيظل رهيناً لها.. المشاركة في معارض الكتاب في البلدان العربية يساعدهم على البقاء. هناك موزعون وهناك مؤسسات وهناك جامعات تأتي كل عام.. لا يراهنون على القارئ الفرد بل على تلك المؤسسات.

قلة من الناشرين اليوم هم من المثقفين.. بدأ يختفي ذلك الناشر المثقف والقارئ الجيد.. البقية تعرف مايريد القارئ، وما الكتاب الذي يمكن تسويقه. هناك ناشرون حققوا نجاحاً في مجال عملهم رغم قلة معرفتهم وسعة اطلاعهم.. وهناك ناشرون مثقفون أفلسوا وأغلقوا دورهم. المهنة تتطلب ما هو أهم من ان تكون ناشراً قارئاً ومطلعاً جيداً.

الهيئة العامة للثقافة في السعودية، التي مضى على قرار إنشائها أكثر من عام ونصف، معنية بدعم مشروع ثقافي يجب أن يكون الكتاب أحد عناوينه الأساسية. واعتقد ان الهيئة إذا لم تبدأ ببرنامج دعم الكتاب من خلال إنشاء هيئة للكتاب فهي تتجاهل أهم ركائز الثقافة العامة.

ليس بدعا ان تدعم الهيئة الكتاب الجيد، وذلك من خلال شراء حقوق النشر، والبيع في المنافذ بسعر يغري القراء باقتناء الكتاب.. ومشروع الكتاب يمكن ان يكون مجالًا ليس فقط للدعم الحكومي ولكن من خلال التبرعات والوقف أيضا.. وما يستهدف تنمية الذائقة والفكر والإبداع هو جزء من مشروع التنمية الشاملة، والتي لا يمكن أن يكون لها حضور في وسط اجتماعي تغلب عليه الأمية الثقافية، وتتردى فيه ملامح فكر حي يقظ، وهو المعول عليه في تغيير الرؤى والسلوك. القراءة ليست ترفاً.. إنها المقوم الأهم في مشروع ريادة نحو عالم مختلف.